الحريق الذي نشب في ذاك المستودع البغدادي، لم يلتهم صناديق الاقتراع فحسب، بل أتى على صدقية ونزاهة الانتخابات العراقية، وبدد صدقية العملية السياسية الجارية في بلاد ما بين النهرين، المهددة بأن تصبح «بلاد النهر الواحد بعد أن جفّ دجلة أو جرى تجفيفه»… فمنذ انتهاء الاقتراع، والتردد والتأخر في إعلان النتائج، ثم الطعون بالفرز الالكتروني، وحروب الاتهامات المتبادلة، وقرارات البرلمان بشأن إعادة الفرز، وقرار المجلس القضائي بتولية تسعة قضاة مهام مفوضية الانتخابات، وانتهاءً بالحريق المتعمد، بدا أن العملية الانتخابية/السياسية تترنح، بعد أن أصيبت في مقتل النزاهة والصدقية والشفافية.
لا ندري كيف سينتهي الجدل بشأن سؤال: «ما العمل؟»، سيما بوجود آراء ومقترحات تذهب في كل صوب واتجاه… من إعادة الانتخابات برمتها، إلى القبول بنتائجها على عجرها وبجرها، وكما أعلنت، مروراً بطيف واسع من الأفكار عن إعادة الفرز يدوياً، كلياً أو جزيئاً، في عموم العراق أو في مناطق «موبوءة» انتخابياً، وترشحها التقديرات المستقلة بأنها الأسوأ بمقاييس النزاهة، كما هو الحال في تصويت الخارج والتصويت الخاص وبعض المناطق الكردية والمختلطة.
والحقيقة أننا كنّا التقينا بثلاثة باحثين عراقيين مرموقين ذات يوم عشية الانتخابات، وتحدث أحدهم (الدكتور باسل حسين) على نحو خاص، عن نظام الفرز الالكتروني، ليس من حيث كلفته الباهظة (ملمحاً إلى فساد عمليات الشراء وعطاءاتها)، بل وإلى عدم كفاءة الأجهزة، وسهولة اختراق النظام والتلاعب بالنتائج، وهو الذي أجرى بحثاً استقصائياً حول هذه المسألة، انتهى إلى الشك والتشكيك، بسلامة الركون إلى هذه الآلية في التصويت والعد والفرز واحتساب النتائج… وكل ما بدا مثيراً، وغير قابل للتصديق في مداخلة صديقنا العزيز، تجلى على أبشع ما يكون في يوم الاقتراع وما تلاه من أيام العد والفرز وحتى يومنا هذا.
على أية حال، ما يشهده العراق اليوم، من حرب اتهامات وطعون، وانقسامات حول سؤال «ما العمل؟»، ليس منفصلاً بحال من الأحول، عمّا يشهده من حراك كثيف بين مكوناته وكياناته الداخلية وداعميها الإقليميين والدوليين، حول وجهة العراق في المرحلة القادمة، واستتباعاً، شكل وطبيعة حكومة ما بعد الانتخابات، وأي ائتلاف سيحظى بفرصة تشكيلها، وأي أثر ستتركها هذه «التوليفة» على علاقات العراق بالمحاور والمعسكرات المحتربة في الإقليم، وبالأخص بين قطب دولي (واشنطن وحلفائها) وقطب إقليمي (طهران وحلفائها).
ولقد بدا أن عراق ما بعد الانتخابات، مقبل على واحد من سيناريوهات ثلاثة، لكل منها ما له وما عليه… كما أن كل واحد منها، يعكس توازن القوى القائم في البلاد في اللحظة الراهنة، ويقرر لمن ستكون الغلبة فوق هذه الساحة المفتوحة لحروب الوكالة، لإيران وحلفائها أم للولايات المتحدة وأصدقائها:
السيناريو الأول: ائتلاف وحكومة «بعيدين» نسبياً عن إيران، ما يعني «قريبين» نسبياً من الولايات المتحدة، وربما بالقدر ذاته، ويضم ائتلاف كهذا كل من «سائرون» و»النصر» و»الحكمة»، ويضم سنياً الكتلة الوطنية وربما ائتلاف القرار، فضلاً عن الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني، وكيانات أقل شأناً… هذا هو الائتلاف الأكبر والأسهل منالاً، بيد أن خطورته الأولى تكمن في ترك «فتح» واستتباعاً الحشد الشعبي، خارج صفوف الحكومة، ما قد يتسبب بتداعيات سياسية وأمنية على حد سواء.
السيناريو الثاني: ائتلاف وحكومة «بعيدين» نسبياً عن الولايات المتحدة، و»قريبين» نسبياً من إيران، وبالقدر ذاته كذلك، ويضم كلا من «دولة القانون» و»الفتح»، وربما الحكمة المتأرجح بين طريقين، ويضم جماعة السليمانية من الأكراد، بزعامة الحزب الوطني، وبعض القوائم السنيّة، من «المؤلفة قلوبهم» أو «المؤلفة جيوبهم»… هذا ائتلاف لا يحظى بما يكفي من المقاعد لتشكيل الحكومة، وسيكون مجبراً على الدخول في مقايضات ومساومات، مع كيانات أخرى، شيعية وسنية وكردية، لتأمين النصاب اللازم.
السيناريو الثالث، خليط غير متجانس سياسياً، من الكيانات العشر الكبرى (5 شيعية)، (3 سنية) و(كتلتان كرديتان) يجمع الشامي بالمغربي، وفقاً لنظرية ليس بالإمكان أبدع مما كان، وبصورة تتفادى العواقب الوخيمة لإخراج كتل وازنة من الحكومة وإبقائها في صفوف المعارضة، وهنا سيتعين على الحكومة المشكلة عن هكذا ائتلاف، أن تسير في «حقل ألغام» خطر، وسيزداد خطورة، كلما اشتدت حدة المواجهة والاستقطاب، بين واشنطن وطهران، في الإقليم وعلى الساحة العراقية بشكل خاص.
شكل وتشكيل الحكومة، استدعى حضوراً أمريكياً وإيرانياً كثيفاً في العراق، قبل الانتخابات وبالأخص بعدها، وتولى بيرت ماكغورك المهمة عن الجانب الأمريكي، مثلما تولاها قاسم سليماني عن الجانب الإيراني… ويبدو أن المصاعب التي اعترضت تشكيل الائتلاف والتحالفات، فتحت الباب لمعركة من نوع جديد: معركة الطعون وإعادة الفرز وأفضت إلى حرق صناديق الاقتراع.
وقد يفضي التحقيق، الجاد والجدي، في جريمة حرق الصناديق، إلى إشعال حرائق أخرى في العراق، وقد يفضي «عدم التحقيق» إلى نتائج لا تقل كارثية… كما أن قرار إعادة الفرز يدوياً، سيفضي إلى انكشاف كتل وازنة، وافتضاح تدخلها الفظ في الانتخابات، وقد يترتب كل خيار من الخيارات التي يجري تداولها، القضاء على آخر ذرة من الثقة بالطبقة السياسية والعملية السياسية، فضلاً عن المؤسسات والرموز المنبثقة عنها.