هذه السنة تحلّ الذكرى الثلاثون لـنهاية «حرب المخيّمات» التي استمرّت ثلاث سنوات في جنوب بيروت والجنوب. الحرب رتّبت أكلافاً إنسانيّة تفوق الأكلاف التي نجمت عن اقتحام مخيّم تلّ الزعتر في 1976 ومذبحة مخيّمي صبرا وشاتيلا في 1982. إحدى الروايات تقول إنّ المرجع الدينيّ الراحل السيّد محمّد حسين فضل الله أفتى يومها بالتالي: يجوز لسكّان المخيّمات المحاصَرة أكل لحوم الحيوانات النافقة.
«حرب المخيّمات»، مع هذا، حظّها قليل: لا أحد يتذكّر. لا أحد يذكّر.
قد نقع على إجابة رمزيّة تفسّر هذا التجاهل في حدث آخر شهدناه قبل أسبوع: تجديد انتخاب نبيه برّي رئيساً للمجلس النيابيّ اللبنانيّ للمرّة السادسة. برّي كان، ولا يزال، زعيم التنظيم الذي خاض حرب المخيّمات. النصر على المخيّمات، إذاً، مستمرّ سنةً بعد سنة بعد سنة. مع كلّ «نصر» يتحقّق على إسرائيل، يتأكّد النصر على المخيّمات ويتكرّس.
التذكّر والتذكير ليس هدفهما نكء جراح الماضي. هدفهما، في المقابل، التوكيد على الكذب والانتقائيّة في العواطف اللذين يُظهرهما البعض حيال الفلسطينيّين وحيال العداء لإسرائيل. ذاك أنّ العنصر المقرّر ليس تلك المشاعر المزعومة حيال الفلسطينيّين، بل المشاعر المضادّة حيال من قاوموا النظام السوريّ ومطامعه الإقليميّة، أكانوا مسيحيّين أم فلسطينيّين. وهذه عيّنة صغيرة على ما تمّ التعارف على تسميته «قوميّة» و «وطنيّة» في لبنان، وعلى كونه غطاءً لعصبيّات أهليّة محتقنة.
واقع الحال أنّنا إذا راجعنا تلك الصفحات القديمة، بهدف فهم الحاضر، لاحظنا كيف أنّ نظام دمشق كان يضرب المخيّمات بيد، وباليد الأخرى يحول دون نشأة سلطة مركزيّة لبنانيّة. انشقاق «اللواء السادس» ومشاركته يومذاك في حروب تصديع السلطة المركزيّة، ثمّ في حرب المخيّمات، دليل لا يخطئ على الهدف المزدوج هذا.
بالطبع، وراء «أمل» و «اللواء السادس»، كانت هناك رغبة النظام السوريّ في الاجتثاث السياسيّ للفلسطينيّين، في طرابلس كما في البقاع والجنوب، وبالتأكيد في بيروت. إنّها، لمن يذكرون، المعركة ضدّ «العرفاتيّة» أو ضدّ «القرار الوطنيّ الفلسطينيّ المستقلّ».
صحيح أنّ معاملة الفلسطينيّين لم تكن مرّةً معاملة كريمة في لبنان، لكنّهم لم يحظوا مرّةً بمعاملة لئيمة كالتي عرفوها في عهد الوصاية السوريّة حين كانت تخفق رايات «عروبة لبنان» و «وحدة المسارين». وليُسأل عن ذلك خصوصاً وزراء الشؤون الاجتماعيّة والعمل الذين كانوا دوماً الأقرب إلى قلب المسؤول الأمنيّ في عنجر.
اليوم، يذكّرنا انتخاب برّي مجدّداً وعودة «رموز الوصاية» بمدى نجاح حرب المخيّمات في إخضاع الفلسطينيّين، وبتوطّد نظام هو، على رغم كلّ تقلّباته، لا صلة له بفلسطين. أكثر ما يذكّرنا بذلك أنّ الذاكرة السائدة لم تعد تتذكّر شيئاً عن تلك الفترة. الانتصار على الفلسطينيّين وصل إلى حدّ المحو والاستئصال. ما هو أبعد، أنّ النظام السوريّ الذي يستعين بالروس والإيرانيّين وميليشياتهم على شعبه يستطيع أن يبقى منتصراً في لبنان ومنتصراً على الفلسطينيّين. لكنّ نسيان حرب المخيّمات لا يكفي لحجب تدمير مخيّم اليرموك…
بالطبع، «ولّى زمن الهزائم».