في الثاني والعشرين من مايو 1990، كانت الوحدة اليمنية. وقّع اتفاق الوحدة الذي جعل من اليمنين يمنا واحدا علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض، الاوّل بصفة كونه رئيسا لما كان يعرف بـ«الجمهورية العربية اليمنية» والآخر بصفة كونه الأمين العام للحزب الاشتراكي الذي كان يحكم الجنوب.
على هامش توقيع اتفاق الوحدة ورفع علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض العلم الجديد لليمن، أي للجمهورية اليمنية، كان لافتا ان المبنى الذي استضاف الاحتفال، في حيّ التواهي في عدن، بني على انقاض المبنى الذي وقعت فيه مجزرة الثالث عشر من يناير 1986. كانت تلك المجزرة، قبيل الاجتماع المقرر للمكتب السياسي للحزب الاشتراكي، مؤشرا الى نهاية دولة الجنوب وسقوط النظام القائم. بين الذين قتلوا وقتذاك ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي للحزب هم، نائب الرئيس علي عنتر ووزير الداخلية علي شايع ووزير الدفاع صالح مصلح قاسم. في وقت لاحق قُتل عبدالفتاح إسماعيل، الذي كان يعتبر منظّر الحزب الاشتراكي.
كان المبنى الجديد في التواهي دليلا على رغبة في نسيان الماضي الأليم لـ«جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية» ودفنه. لم تكن تلك الجمهورية سوى جرم يدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق. راحت دولة الجنوب تتفكّك وتتفتت تدريجا مع بدء انهيار الاتحاد السوفياتي منتصف ثمانينات القرن الماضي. كانت احداث مطلع العام 1986 في عدن بمثابة الإشارة الاولى الى بدء العد العكسي لنهاية الاتحاد السوفياتي الذي لم يعد قادرا على حماية نظام بناه لبنة لبنة.
تحققت الوحدة اليمنية في ظروف إقليمية ودولية يصعب ان تتكرر يوما. تحقّقت بعد ستة اشهر من انهيار جدار برلين الذي أدى الى استعادة المانيا وحدتها وفي ظلّ صعود العراق كقوّة إقليمية بعد تحقيقه شبه انتصار على ايران في حرب استمرّت ثماني سنوات. دفع صدّام حسين في اتجاه الوحدة اليمنية في وقت كانت دول الخليج العربي تؤيد في معظمها بقاء اليمن كيانين منفصلين على ان تعمل على الاستثمار في الجنوب من أجل اعادته الى الحضن العربي، الخليجي تحديدا، بدل بقائه حالة غريبة عن محيطها.
لعلّ اكثر ما عكس وقتذاك الحذر الخليجي، وهو حذر كان في محلّه الى حدّ ما، غياب كلّ زعماء دول مجلس التعاون عن الاحتفال بتوقيع الوحدة. كان ياسر عرفات الحاضر الوحيد بين القادة العرب في عدن.
بعد ثمانية وعشرين عاما على الوحدة اليمنية، يمكن القول ان اليمن ذهب من الوحدة الى مرحلة التشظي والتفتت. كان السبب الأساسي فشل مشروع دولة الوحدة. يعود ذلك الى مجموعة من الأخطاء كان في طليعتها اعتقاد قادة الحزب الاشتراكي في الجنوب انّ العودة عن الوحدة خيار متاح لهم. لم يستطع ايّ من هؤلاء استيعاب ان الوحدة ما كانت لتتحقّق لولا اقتراب النظام الذي اقاموه من انفجار جديد كان سيطال كلّا منهم.
لا تقع المسؤولية على قادة الحزب الاشتراكي وحدهم، بل على علي عبدالله صالح وحزب الإصلاح أيضا الذي كان يتزعمّه الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، الزعيم القبلي الذي استخدمه الاخوان المسلمون غطاء لهم لفترة طويلة.
على الرغم من حذره الدائم من الاخوان، لم يتصوّر علي صالح يوما ان البيض يمكن ان يذهب الى النهاية في خيار مستحيل يتمثل في استعادة دولة الجنوب عبر حسابات خاطئة. من بين هذه الحسابات ان الجيش الجنوبي، الذي كان لا يزال قائما، قادر على ربح الحرب. جاءت حرب صيف العام 1994 لتقلب كلّ التوازنات التي قامت منذ اعلان الوحدة. استمرّ الزمن اليمني الجميل الذي تلا مباشرة مرحلة ما بعد الوحدة اربع سنوات. في غياب الحزب الاشتراكي، ضاع التوازن الذي كان علي صالح في بحث دائم عنه. يقوم هذا التوازن على لعب دور الحكم بين الحزب الاشتراكي والتجمّع اليمني للإصلاح. ما ضاع كان محاولة لاقامة تعددية سياسية في اليمن تقود في يوم من الايّام الى تداول سلمي للسلطة عبر صندوق الانتخابات. هل كان هذا الامل في مستقبل افضل لليمن في ظلّ الوحدة مجرد سراب منذ البداية؟
جنّبت الوحدة اليمنية البلاد مصائب كثيرة. لولا الوحدة، لكانت تجددت الحرب الاهلية في الجنوب والتي كانت احداث 1986 مجرد فصل من فصولها المأسوية لا اكثر. لولا الوحدة، كان الشمال بقي اسير التوازنات القبلية والعشائرية والمناطقية التي استطاع الاخوان استغلالها طويلا قبل ان يسقطوا في فخها. ما قضى على الاخوان، الذين ما زالوا مصرّين على ان المستقبل لهم، كان استخفافهم بالخطر الحوثي في الشمال واعتقادهم انّ الجنوب الذي تمددوا فيه في كلّ الاتجاهات، ومعه الوسط، صار في يدهم.
من يعرض الاحداث التي شهدها اليمن منذ 1990 يكتشف اوّل ما يكتشف انّ المشكلة تكمن أساسا في العجز عن تطوير النظام الجديد الذي قام بعد الوحدة. تحوّل علي صالح، الذي كان على استعداد لقبول دستور حديث لولا إصرار الإصلاح على تعديلات تتلاءم مع تطلعات الاخوان المسلمين، من رئيس للجمهورية الى شخص تنحصر مهمته في إدارة ازمة معقدة اسمها اليمن. زادت الازمة تعقيدا في ظلّ حروب مع الحوثيين رافقها الشبق الاخواني الدائم الى السلطة. يضاف الى ذلك مزاجية علي صالح التي زادت بعد حرب 1994 ودخوله لاحقا مرحلة الاستعانة بالعائلة، مبررا ان لكل رئيس الحق في اختيار فريق عمله.
لم تكن هناك في اليمن تجربة ديموقراطية، بكلّ معنى الكلمة، يمكن البناء عليها. كانت الوحدة مجرد فرصة ضاعت. لم يعد الشمال هو الشمال الذي عرفناه، خصوصا بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء في الواحد والعشرين من سبتمبر 2014 واغتيالهم علي عبدالله في الرابع من ديسمبر 2017. لم يعد الوسط الذي اغنى اليمن بالرجال المثقفين والمسالمين وبرجال الاعمال سوى منطقة تتجاذبها قوى مسلحة لا علاقة لها بالقيم التي تربّى عليها اهل تعز والمنطقة المحيطة بها. لم تعد للجنوب علاقة بالجنوب. الوضع الاجتماعي فيه يتدهور يوميا. الأخطر من ذلك كلّه ان لا وجود لقيادة يمنية تمتلك شرعية او رؤية من ايّ نوع.
من بلد موحّد في 1990 الى مجموعة كيانات بات من الصعب إعادة اللحمة في ما بينها، ضاع اليمن الذي يتبيّن اليوم انّه لم يكن مستعدا للوحدة ولتعددية سياسية وأحزاب وصحف وبرلمان. في سنوات قليلة، عاد اليمن عشرات السنوات الى خلف، بل الى أسوأ ممّا كان عليه في عهد الامامة. هناك قيادة غائبة وهناك جنوب وشمال ووسط. وهناك بحث عن صيغة جديدة للبلد لا علاقة لها لا بالوحدة ولا بالدولتين او الكيانين المستقلّ كلّ منهما عن الآخر.
بعد 28 عاما على الوحدة نكتشف ان اليمن لم يكن مهيّأ يوما لهذه الوحدة، مثلما ان الجنوب لم يكن مهيّأ يوما للاستقلال في العام 1967…