نون والقلم

الدكتور عبد الرحيم عبد الواحد يكتب: مهاتير .. واستكمال الحلم الماليزي

أُسدل الستار أخيراً على حقبة عمرها ٦٠ عاماً من سيطرة وهيمنة الحزب الحاكم الماليزي على زمام السلطة في ماليزيا، وذلك بعد فوز ائتلاف المعارضة، بزعامة رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد، والذي تراجع عن تركه الحياة السياسية كما وعد بذلك بعد ٢٢ عاما من توليه المنصب، إلا أنه وجد نفسه مضطرا لذلك، حفاظا على ماليزيا ومستقبل شعبها وحمايتها من الانزلاق الى اتون الفوضى والتشرذم والصراعات العرقية والاجتماعية.

أخبار ذات صلة

وفي المقابل كان لهذا التراجع ثمنه الكبير والباهظ في المعادلة السياسية الماليزية وهو التحالف بين مهاتير محمد وأنور إبراهيم، الذي كان يعتبر عدوا وخارجا عن (النص) المالي والإداري والأخلاقي ايضا بالنسبة لمهاتير.

وتتجلى الديمقراطية الماليزية في أبهى صورها حينما اعترف رئيس الوزراء الخاسر نجيب عبد الرزاق وغالبية وزرائه، بالهزيمة مؤكدين بأنهم يحترمون إرادة الشعب الماليزي، واحترام مبادئ الديمقراطية البرلمانية في بلادهم.

وحقق مهاتير فوزه غير المتوقع على الإطلاق (بما فيهم أنا شخصيا) بعدد 113 مقعدا، في حين فاز الائتلاف الحاكم بقيادة نجيب عبد الرزاق بعدد 79 مقعدا، من مجموع عدد مقاعد البرلمان البالغة 222 مقعدا.

وهنا نرى أن مهاتير محمد قرر العودة للحياة السياسية ليس طمعا في السلطة التي تركها اختيارا وطوعا وهو في أوج قوته وسلطاته، أو رغبة في تحقيق مكاسب مالية ضخمة، بل لكونه (باني ماليزيا الحديثة) ومؤسس نهضتها الحالية، فمن من الصعب جدا، بل من المستحيل ان يرى بأم العين بداية الانحسار والزوال لهذه الانجازات الرائدة وغير المسبوقة، وبالتالي ضياع مستقبل هذا البلد بسبب ساسيات يراها فاسدة تحرق ماليزيا بمن فيها، لذلك كانت هذه العودة للسياسة، التي تحققت أيضا عبر التحالف بين أعداء الأمس ليصبحوا شركاء الحكم والسلطة معا (مهاتير محمد وأنور ابراهيم).

وكانت دوافع وأسباب مهاتير للتدخل والعودة للسياسة تتمثل فيما قام به نجيب عبد الرزاق من تصرفات فاسدة أبرزها سرقة ما يقل عن 4.5 مليار دولار أمريكي من أموال صندوق التنمية الوطني الماليزي، منها على الأقل 700 مليون دولار تم تحويلها على حسابه الخاص والتي نفاها نجيب قائلا بأنها للأعمال الخيرية ومساعدة المجتمع الماليزي وتعزيز البنى التحتية في بلاده.

ومن الأسباب الأخرى التي دفعت مهاتير للعودة الى المعترك السياسي رغم تقدمة الكبير في السن (٩٢) كأكبر رئيس ورزاء منتخب في العالم، القرارات الاقتصادية الحياتية التي اصدرها نجيب عبد الرزاق، ومنها فرض ضرائب جديدة وإلغاء دعم المحروقات، وبالتالي تضاعف وتزايد الأعباء المعيشة على غالبية الشعب الماليزي الذي ينتمي للطبقة المتوسطة، وربما هذا السبب هو أيضا ضمن الاسباب التي ساهمت في دعم تحالف المعارضة بل وعّجلت في الخلاص من ادارة حكومة نجيب الاقتصادية.

ووفق رؤيتنا الراصدة فإن مهاتير محمد يرى ضرورة تدخله القوي والقومي في سياسة بلاده لما يعتقده بانها تمر بمرحلة خطيرة وحاسمة بسبب تداعيات وفساد حزب المنظمة المالاوية القومية المتحدة “أمنو” التي يتزعمها نجيب.

ومن هنا لم يغفل مهاتير ومن أجل ترسيخ تحالف المعارضة وفي الوقت نفسه نجاحه في التغلب على تلميذه وخصمه نجيب عبد الرزاق، اعترف صراحة وعلانية بالخطأ الذي ارتكبه بحق نائبه إبان رئاسته للوزراء أنور ابرايهم المعتقل حاليا في السجن بتهم اللواط والشذوذ الجنسي، إلا أن الامر لم يقف عند هذا الحد، بل استطاع ان يتنزع وبذكاء عفو أنور عما ارتكبه (مهاتير) في حقه من اتهامات قاتلة في مجتمع ماليزيا المحافظ.

وكان أنور إبراهيم زعيم المعارضة المسجون حاليا، قد تولى منصب وزير المالية بين عامي 1991 و 1998 ونائب رئيس الوزراء مهاتير محمد بين عامي 1993 و1998، قبل نشوب الصراع الاستراتيجي بين الطرفين، بل تم اعفاء انور ابراهيم من جميع صلاحياتة وشل قدراته الشعبية ومن ثم الحكم عليه بعقوبات وصفت بالقاسية خاصة الاخلاقية والمالية والإدارية.

وفي هذا الاطار نؤكد مجددا على ذكاء ودهاء مهاتير محمد في ادارة بلاده والخروج منها الى بر الأمان برغم المخاطر المحيطة والتي ربما كادت تعصف بالمستقبل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعرقي لهذا البلد الآسيوي، فالدرس الذي يمكن تعلمه من هذه التجربة الأخيرة بأن ماليزيا بل أي دولة يمكنها الاستقرار وتجاوز الأزمات الاستراتيجية بحكمة واخلاص وتفاني ودهاء القائد والزعيم للشعب والبلد.

وهذه ليست المرة الأولى التي يحفظ مهاتير بلاده من خطر الانزلاق الى المجهول، حيث تجاربه عديدة إبان توليه رئاسة الوزراء في الفترة من 1982 وحتى ٢٠٠٣، ومن أبرزها، الأزمة المالية (المدبرة) التي كادت تعصف بمستقبل هذا البلد ورفضه برامج وخطط صندوق النقد الدولي وتدهور الاقتصادي والعملة الماليزية آنذاك، بل وقبلها الأزمة العرقية التي كادت تحرق الاخصر واليابس إبان بدايات الاستقلال الماليزي.

وجاء التوافق أو الاتفاق بين مهاتير وأنور ابراهيم ليؤكد من جديد بأن المصلحة القومية والوطنية ومستقبل الشعب واستقراره هي الفائز والمنتصر في هذه الانتخابات الأخيرة، بالرغم من الخلافات بل والصراعات الاستراتيجية السياسية والشخصية بين الرجلين منذ فترة ليست بالقصيرة، دفع ثمنها أنور إبراهيم من سمعته وحريته واسمه وشعبيته… إلا أن ذلك كان هينا في سبيل انقاذ الوطن من الانزلاق للاخطر والأكثر شراً.

ونتوقع في هذا المقام ضرورة قيام تحالف احزب المعارضة بقيادة مهاتير بالمزيد من أجل تعزيز الاستقرار العرقي والاجتماعي في ماليزيا على اعتبار أن الحزب الحاكم الآن يمثل نسبه لا يستهان بها من الصينين والهنود، عكس ما كان إبان حكم (أمنو) وغالبيته من المالايو المسلمين.

ونرى من جانبا بأن الفرصة مواتية الآن للمزيد من تعزيز الثقة العرقية والاجتماعية بين فئات الشعب الماليزي تحصينا وحماية من أي ردود فعل ربما يقوم بها المعارضون لهذا التحالف الجديد في بلد يجمع في تركيبته العرقية العديد من الأعراق والفئات المتنوعة والمختلفة أيضا.

ومن هنا نرى بأن المهمة الاولى ستكون تحقيق الاستقرار الاجتماعي الوطني بصورته الشاملة، على اعتبار أنه أحد الأسباب الأساسية التي تساعد وبقوة في حماية الدولة والشعب معا في شراكة المواطنة ولأجيال مقبلة.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى