أحياناً تدفعنا المواقف الرسمية للإدارة الأمريكية، وللرئيس ساكن البيت الأبيض، تجاه حل النزاع الفلسطيني -«الإسرائيلي»، لأن نتوقف أمامها متسائلين: هل تحرك هذه المواقف النزاع ناحية الحل، أم أنها تدفع به إلى متاهات يتيه في داخلها من دون فرصة للخروج منها؟
من ذلك مثلاً، ما أعلنه الرئيس دونالد ترامب، وأعاد تكراره وزير خارجيته ريكس تيلرسون، من أن الولايات المتحدة تدعم حل الدولتين، لكن بشرط موافقة الطرفين «الإسرائيلي»، والفلسطيني على ذلك. وهذا الموقف ينشط الذاكرة في محاولة لكي نستخرج منها رؤية أمريكية أخرى، وهي وإن كانت تبدو كأنها رد غير مباشر على ما أعلنه الرئيس الأمريكي، وأركان إدارته، فإن هذه الرؤية – التي سبقت قرارات ترامب – تشخص بطريقة لا مهرب منها، الأسلوب الوحيد لحل النزاع بشكل نهائي وحقيقي.
وما أعرض له هنا اليوم، هو جزء من لقاء لمناقشة موضوعية لهذه القضية، سبق أن أجريته في واشنطن مع البرفيسور ستيفن كوهن، أحد أبرز خبراء السياسة الخارجية، والمختص بالشرق الأوسط، ومهتم بعملية السلام على وجه التحديد، والأستاذ في عدد من جامعات أمريكا، منها جامعة هارفارد، كان الدافع الأول لحواري معه، أنه هو الذي أشرف على إعداد التقرير المهم والخطير الذي أصدره مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي عام 1998، وشارك في إعداده عشرون من أكبر، وأهم المسؤولين في الحكومات الأمريكية المتعاقبة، والسفراء السابقين، وهو التقرير الذي صدر بعنوان «سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ، وعملية السلام». كان مضمون تقرير ستيفن كوهن، هو الرد على ما تردده «إسرائيل» من رفضها أي محاولة لفرض حل لعملية السلام، وفي تفنيده لهذه الحجة «الإسرائيلية»، قال كوهن إن أحداً لا يطالب بفرض الحل. لكن المطلوب هو فرض العملية Process
.. أي عملية التحرك في المفاوضات إلى الأمام. بمعنى أن الولايات المتحدة، عليها إيجاد وضع لا يجعل دول المنطقة تتهرب من اتخاذ القرارات، في مسألة لا تتعلق بعلاقة ثنائية بين «إسرائيل»، والفلسطينيين، بل بعلاقتها أيضاً بالولايات المتحدة كطرف ثالث، تتأثر مصالح أمنها القومي على المدى الطويل بتحقيق عملية السلام، وبإنهاء متوازن للنزاع. وينبغي على أمريكا أن تجعل الأطراف تفهم الوضع على هذا النحو.
ثم سألت ستيفن كوهن عما يدور في عقل الليكود الحاكم تجاه عملية السلام؟ فكان من ضمن ما قاله أن «الإسرائيليين» لا يريدون أن يكون لأمن «إسرائيل» علاقة بالوفاء بالالتزامات المفروضة عليهم. وإنما يكون الأمن التزاماً عربياً غير مشروط، وغير مرتبط بالالتزامات «الإسرائيلية» بشأن مطالب العرب بالنسبة للأرض المحتلة. بينما يؤدى إعطاء أولوية للأمن قبل أي مطالب عربية إلى تعقيد عملية السلام.
وحول الموقف المطلوب من الولايات المتحدة اتخاذه، قال كوهن إن الولايات المتحدة قادرة على إيجاد التوازن بين الأمن، والاتفاق السياسي، وأن تجعل «الإسرائيليين» يتخذون القرارات الصعبة. لكن المشكلة في أن أمريكا سمحت لنفسها بأن تترك للأطراف التعامل مع النزاع باعتباره نزاعاً محلياً بعيداً عن الإطار الأوسع للمصالح الأمريكية.
هنا نتوقف أمام جانبين رئيسيين للوضع الراهن، أولهما ما ذكره ترامب عن تأييده لحل الدولتين بشرط موافقة الطرفين «الإسرائيلي» والفلسطيني، مستبعداً الدور الأمريكي كطرف في عملية ثلاثية – حسبما وصفها ستيفن كوهن، وحصرها في إطار كونها مشكلة ثنائية بين «إسرائيل» والفلسطينيين، يلقى عليهما وحدهما عبء حلها، وهو يعلم أن «إسرائيل» تعمل على تعويق أي فرصة أمام حل الدولتين، بما تعلنه رسمياً، وبما تمارسه على الأرض. ولعل الرئيس جورج بوش الأب، كان واضحاً في تشخيصه لهذه المشكلة، والذي يتفق تماماً مع توصيف كوهن، حينما ربط بوش بعد عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، حل النزاع بالأمن القومي للولايات المتحدة، بتحديده أن للحل ثلاثة أضلاع، يتحمل فيه الطرف الرئيسي هو أمريكا، مسؤولية فرض تحريك عملية السلام، لتصل إلى نتيجة محددة، وتحول دون تهرب «إسرائيل» منها.
يتناقض مع ذلك، ما حدث من تعقيد لعملية السلام، وهو ما أعلنه أركان إدارة جورج بوش الإبن، من قادة حركة المحافظين الجدد، من أفكار من شأنها هدم المبدأ الأساسي لعملية السلام، وهو مبدأ «الأرض مقابل السلام»، واستبداله بعبارات غامضة هي قولهم بالسلام مقابل السلام، وهو نوع من إضفاء الغموض على أي مساع حقيقية لعملية السلام، والدفع بها إلى متاهات يعرفون أنها تجعل مفاوضات السلام، مجرد عملية تظل تدور حول نفسها بلا طائل أو نتيجة.