الولايات المتحدة كانت مسؤولةً بشكلٍ كبير عن توظيف حركات دينية خلال حقبة «الحرب الباردة» مع المعسكر الشيوعي وضدّ تيّار القومية العربية، هذه الحركات التي تحوّلت إلى جماعات عنفٍ وإرهاب، كما حدث مع «المجاهدين الأفغان» الذين كانوا نواة تنظيم «القاعدة»، وهو الذي أفرز لاحقاً تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة».
والولايات المتّحدة كانت مسؤولةً أيضاً عمّا حدث ويحدث في العراق وفي سورية وفي بلدان أخرى بالمنطقة، نتيجة السياسات التي اتّبِعت منذ مطلع القرن الحالي، والتي استفادت منها إسرائيل فقط، وهي السياسات التي خطّط لها «المحافظون الجدد» وجماعات أميركية/صهيونية منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، بالتنسيق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (راجع: Clean Break)، والتي جرى البدء بتنفيذها عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، ومن خلال غزو العراق، ثمّ بدعم الحروب الإسرائيلية على لبنان وفلسطين، وبالمراهنة على إسقاط أنظمة عن طريق العنف المسلّح وبدعمٍ لجماعات دينية سياسية، وبالمساعدة على إشعال أزماتٍ داخلية، وبتوظيف المشاعر الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية.
وقد حصدت الولايات المتحدة وقوى دولية وإقليمية نتائج سلبية على مصالحها بعدما زرعت أيديها بذور هذه الأزمات المستمرّة حتّى الآن. لكن الخطر الأعظم، كان وما زال، هو على شعوب المنطقة وأوطانها، وممّا كان يتطلّب من الحاكمين والمعارضين فيها وعياً وطنياً وقومياً يتجاوز حدود المصالح الفئوية، لكن هذا الأمر ما زال غائباً رغم أنّ النيران تهدّد كياناتٍ عديدة في المنطقة.
الحرب الأميركية على أفغانستان في نهاية 2001 ثمّ الحرب على العراق في مطلع 2003، وما رافقهما من انتشار عسكري في دول الشرق الأوسط، وإقامة قواعد في بعضها، ثمّ التوسع الأمني والعسكري الأميركي في دول أفريقية عدة، ثمّ التدخّل العسكري في العديد من الدول تحت ذرائع مختلفة، كان أبرزها في السنوات القليلة الماضية شعار «الحرب على الإرهاب»… كلّها كانت أعمالاً عسكرية من أجل خدمة رؤى أو إستراتيجيات سياسية لها مضامين أمنية واقتصادية.
العنصر المهمّ في هذه الرؤية الأميركية للشرق الأوسط، قام على ضرورة إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، وعلى وقف حالة العداء. فالتطبيع سيدفع الأطراف كلّها إلى القبول بحدودٍ دنيا من المطالب والشروط، كما أنّه سيسهّل إنهاء الصراعات حتّى من غير قيام دولة فلسطينية مستقلّة أو تسوياتٍ سياسية شاملة لكلّ الجبهات، وسيساعد على وقف أيِّ أعمال مقاومة مسلّحة في المنطقة.
ويمكن القول إنّ حروب واشنطن العسكرية في الشرق الأوسط، والتي بدأت في مطلع التسعينات بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أرادت تحقيق:
- «ديموقراطيات سياسية» في المنطقة، لكن ليس على أساس أوطان موحّدة أو إلى حدّ الاستقلال عن القرار الأميركي.
- التشجيع على حروبٍ أهلية وصراعاتٍ عسكرية محلّية قائمة على انقساماتٍ إثنية أو طائفية. حروب تستهدف الوصول لصيغٍ دستورية فيديرالية جامعة لما جرى تفكيكه خلال الصراعات في كلّ وطن، وممّا يحفظ للولايات المتحدة علاقاتٍ خاصّة مع كلٍّ من الأطراف المحلّية المتصارعة.
- إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي بفرض التطبيع بين إسرائيل وكل العرب، وليس بالاعتماد على معيار الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، أو الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلّة منذ العام 1967.
- ترسيخ التواجد العسكري والأمني الأميركي في بلدان المنطقة، ولكن ليس إلى حدّ التورّط بصراعاتٍ داخلية استنزافية أو الاضطرار لإبقاء قواتٍ كبيرة العدد إلى أمدٍ مفتوح.
ولعلَّ ما حدث في العراق عام 2003، ثمّ في السودان وتقسيمه بمطلع 2011، ثمّ بالتداعيات الحاصلة في سورية والعراق وليبيا واليمن، ما يكفي من أمثلة عن خلاصات تفسّر الرؤية الأميركية للشرق الأوسط والمواقف الأميركية حالياً من قضايا عدة عربية.
ما زلت أذكر قول الرئيس بيل كلينتون في 2000 بأنّ «القرن العشرين كان قرناً أميركياً، وبأنّ على أميركا أن تعمل أيضاً ليكون القرن الحادي والعشرون قرناً أميركياً». فلقد نجحت أميركا في القرن الماضي بالتعامل مع تطوّرات عالمية كثيرة بدأت في مطلع القرن العشرين بحرب مدمّرة لأوروبا، ثمّ تكرّرت فصولها بشكلٍ أبشع في الحرب العالمية الثانية، التي ختمتها أميركا باستخدام السلاح النووي ضدّ اليابان من أجل تكريس نفسها كمنتصر أوّل في الحرب، ومن أجل إضافة اليابان (الآسيوية) إلى الفلك الأميركي الجديد الذي نتج عن انهيار أوروبا عسكرياً واقتصادياً.
ثمّ نجحت أميركا في جعل العالم يقوم على حلفين أو محورين: «حلف الخير الديموقراطي الرأسمالي» (الأميركي/الغربي)، و«حلف الشر الديكتاتوري» (الشيوعي/الشرقي)، وكانت ساحة الصراع بين المعسكرين هي دول العالم الثالث غير المحسوم انتماؤها نهائياً لأحد المعسكرين. فموسكو وواشنطن حرصتا خلال الحرب الباردة على عدم التدخّل المكشوف والمفضوح في دائرة المعسكر الآخر، كما احترم قادة المعسكرين ما حصل في يالطا من اتفاقية توزيع غنائم ما بعد الحرب الثانية، لكنّهما استباحا لأنفسهما الصراع على كل دول العالم الثالث.
إنّ أميركا لم تصنع الحرب العالمية الثانية، لكنّها استفادت من تداعيات الحرب لكي تُضعف المنافسين الأوروبيين الذين تربّعوا على عرش زعامة العالم منذ الثورة الصناعية في أوروبا.
إنّ أميركا لم تخطّط للعدوان الثلاثي (البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي) على مصر عام 1956، لكنّها استفادت من ثورة المنطقة العربية على البريطانيين والفرنسيين من أجل وراثة دورهم ونفوذهم في منطقة الشرق الأوسط.
إنّ أميركا لم تشعل نار الخلافات العقائدية والسياسية بين روسيا والصين خلال فترة الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، لكنّها استفادت من الصراعات الداخلية في الدائرة الشيوعية من أجل عزل الاتحاد السوفياتي وانشغاله في «حروب عقائدية داخلية».
طبعاً هناك حروب وصراعات بدأتها أميركا أو خطّطت لبعض تفاصيلها لأجل توسيع دائرة هيمنتها أو لتحجيم نفوذ المنافسين لها. بعض هذه الحروب سار في اتجاه هدف واشنطن وبعضها الآخر مشى في الاتجاه المعاكس لرغباتها، لكن الحروب كرٌّ وفرّ، وقد فشلت أميركا في أماكن عديدة كان أبرزها في الميدان العسكري خسارتها لحرب فيتنام، ثمّ ما حدث ويحدث في العراق وأفغانستان.
هكذا هو تاريخ الإمبراطوريات والقوى الكبرى في العالم: صناعة أحداث للاستفادة من نتائجها، أو توظيف أحداث قائمة لخدمة مصالح القوّة الكبرى المهيمنة. فأميركا ليست شواذ في سلوك القوى الكبرى مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة والشعارات العقائدية للدول والمراحل التاريخية. والمشكلة ليست في وجود تخطيط أو تآمر أجنبي، بل في عدم توقّعه أو التحسّب له ولأساليبه وأهدافه. هي مشكلة «الداخل» الذي يوجِد الأرض الخصبة لزراعة تآمر «الخارج»، ثمّ يترك لهذا الطرف الخارجي أن يحصد النتائج!
ولا أعلم إذا كانت صدفةً تاريخية أن يتزامن سقوط الأندلس في العام 1492 مع اكتشاف كولومبس للقارّة الأميركية في العام نفسه. فقد كان ذلك التاريخ بداية لتكوين أمّة جديدة قامت نواتها الأولى على قهر أصحاب الأرض الشرعيين واستبدالهم بمستوطنين قادمين من أوروبا خوفاً من أوضاع خاصّة في بلدانهم، أو طمعاً في ثروات الأرض الجديدة.
لكن نهب الأرض الجديدة وقتل وتشريد أصحابها الشرعيين، ثمّ الصراعات على الغنائم بين القادمين الجدد، ثمّ الحروب الأهلية والخلاف على تفاصيل السيادة والحكم وكيفية العلاقة مع الجماعات البشرية المستوردة بالقوة من أفريقيا، كلُّ ذلك، مع ما تخلّله من سيطرة «ثقافة الكاوبوي» وانعدام التراث الذاتي الحضاري للأمّة الجديدة، لم يكن سبب تحوّل الأرض المكتشفة منذ قرونٍ قليلة إلى القوّة العظمى الأكبر في العالم.
فرغم كل المساوئ التي رافقت نشوء الأمّة الأميركية الجديدة، فإنّ تحوّل خليط الثقافات والأعراق فيها إلى أمّة واحدة ما كان ليحدث لولا البناء الدستوري السليم الذي حافظ على التنوع في المجتمع في ظلّ الانتماء إلى دولة قائمة على التكامل والتوحّد بين خمسين ولاية.
أمّا على الطرف الآخر (أي دولة الأندلس العربية الإسلامية) فلم يكن سقوطها بسبب انعدام المضمون الحضاري أو نتيجة التخلّف العلمي والثقافي، ولا طبعاً بسبب الابتعاد عن الدين… فالسقوط العربي والإسلامي في الأندلس كان خلال عصرٍ ذهبي من الناحية الحضارية، لكنّه كان تتويجاً لحالة التسيّب في الحكم والصراعات بين أمراء الأرض الأندلسية، وبينهم وبين بقية الولايات العربية والإسلامية.
فما كانت أميركا لتكون ما هي عليه اليوم من قوّة وجبروت، لولا هذا المزيج المركّب من البناء الدستوري والتكامل الاتحادي. أمّة موحّدة رغم ما فيها وما قامت عليه من تناقضات وصراعات عرقية وثقافية. أمّة محكومة بدستورٍ يتجدّد، ولو بفعل ضغط الشارع وليس بمبادرة من المشرّع الدستوري. أمّة هي اليوم تقود العالم ولو بالرغم من إرادة كلّ العالم. أمّا أمّة العرب، فهي ممزّقة سياسياً وكيانياً رغم ما هي عليه من وحدة ثقافية ومصالح مشتركة وتاريخ واحد بكل سلبياته وإيجابياته.
حتّى الآن، فإنّ المنطقة العربية هي في حال الطرف المُسيَّر لا المُخيَّر، وهي بمجموعها المتشرذم وبأجزائها المنقسمة داخلياً، والمعطوبة سياسياً، عاجزةٌ عن تقديم رؤية عربية بديلة لمستقبل المنطقة. وفي ظلّ هذا الفراغ يتواصل على الأرض العربية التدخّل الأجنبي وصراعات النفوذ الدولي قُدُماً إلى الأمام!.
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن