يكرر النظام السوري عرضاً مسرحياً ممجوجاً، بالعراقيل التي يفرضها على دخول محققي منظمة حظر الأسلحة الكيماوية إلى دوما لأخذ عينات من مواقع الهجوم الكيماوي الذي نفذته طائراته في السابع من الشهر الجاري، ومن جثث الذين قضوا بالقصف الذي قام به. الجديد في المسرحية أن الشرطة العسكرية الروسية ستكون متهمة بالمشاركة في عملية إخفاء الحقائق بعد الدفاع المستميت والحجج المتناقضة من قبل موسكو لنفي حصول الهجوم، تارة باتهام المعارضة به وأخرى باتهام «الخوذ البيض» بفبركته، في اجتماعات مجلس الأمن.
لم يكن هناك أي جهة تشك مسبقاً بأن «البلف» سيتجدد، نتيجة التجارب السابقة. الدول الغربية التي أيدت الضربة الثلاثية على مواقع سورية فجر السبت الماضي أدركت سلفاً ذلك. فهي تغاضت بدورها عن 50 هجوماً سابقاً (كما قال ممثلوها في نيويورك)، لم تثر حولها الضجة إلا في تصريحات خجولة، باستثناء قرار مجلس الأمن بتجريد سورية من الكيماوي عام 2013 إثر جريمة الغوطة الشرقية، ثم الرد على كيماوي خان شيخون العام الماضي بقصف مطار الشعيرات.
«الكيماويون» و «الساخطون» عليهم يفهمون اللعبة على خشبة المسرح السوري. والمأساة في هذه اللعبة الجهنمية تعيد إلى الواجهة معادلة «السخرية السوداء» التي رافقت الكارثة الإنسانية السورية: الغربيون الساخطون يحتجون على الكيماوي ويغضون الطرف عن القتل بالبراميل المتفجرة والقصف الجوي الروسي… ولو لم يتزامن الكيماوي السوري مع الكيماوي في سالزبوري البريطانية ضد سكريبال، لربما كانوا غضوا الطرف أيضاً عما جرى في الغوطة. احتسبوا الأمر باعتباره تمادياً روسياً بالاستهزاء بدول الغرب. تحولت موسكو من ضامن لنزع الكيماوي السوري إلى متهم به وفقدت صدقيتها ولم يعد ممكناً اعتبارها «محايدة» في اللعبة المسرحية الجارية منذ أكثر من 7 سنوات. وترميم هذه الصورة يحتاج إلى حدث استثنائي، لا يبدو في الأفق حالياً.
وإذا كانت الضربة الثلاثية الأميركية- الفرنسية- البريطانية راعت مسبقاً مبدأ تجنب الصدام المباشر مع روسيا، بناء لخيار وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، عبر الإنذارات المسبقة واختيار الأهداف السورية الصرفة، فإن دينامية الحروب بالواسطة الدائرة في بلاد الشام تأخذ في كل مرحلة من تصاعدها الأمور نحو أخطار الصدام المباشر. وإذا كان الغرب رد على «إهانة» صورته في أكثر من موقع، بـ «إهانة» لاعتداد فلاديمير بوتين بقدرته على التفرد في سورية، فإن الافتراض بأن هذا أعاد بعض التوازن إلى اللعبة، يسمح بالسعي من أجل الحل السياسي، لا يسلم به سائر اللاعبين. المؤشر الوحيد إلى تسليم موسكو، وواشنطن وباريس ولندن بالتوازن هو الإقبال على هذا الحل السياسي. الموقف من بشار الأسد هو المؤشر إلى اتساع شقة التباعد: دول غربية (مثل ألمانيا وإيطاليا) عادت لتتحدث عن استحالة الحل السياسي باستمراره في السلطة بعد أن كانت ديبلوماسيتها تتلمس وسائل إقناع معارضين بالتسليم بوجوده. وموسكو استخدمت ضد الغرب الحجة القائلة بأن همه إزاحة الأسد وليس منع الكيماوي.
الضربة الثلاثية تقرب موسكو أكثر من طهران، لا سيما أنها جاءت بعد الضربة الإسرائيلية لمطار «تي 4» الذي قتلت 8 ضباط من «الحرس الثوري»، فيما تتهيأ إيران للرد عليها، بينما حرص الجانب الروسي على إظهار خلافه مع تل أبيب خلافاً للسابق بسببها. وإذا عادت شقة الخلاف التركي- الروسي إلى الاتساع مجدداً كما ظهر من الموقف حيال استخدام الأسد الكيماوي، فإن هذا يدفع الجانب الروسي إلى الاعتماد على حلفه مع إيران أكثر. ويلوح المسؤولون الروس بتزويد دمشق بصواريخ متطورة للدفاعات الجوية بعدما فشلت الدفاعات الحالية في التصدي للصواريخ الغربية، وبعدما نجح الغربيون في التلاعب بإنذارات الدفاع الجوي السوري إلى درجة أدت إلى إطلاق صواريخ دفاعية سورية بافتعال «إنذار خاطئ».
والضربة الثلاثية قرّبت واشنطن من رغبات إسرائيل أكثر، بتوجيه ضربة للنفوذ الإيراني في بلاد الشام. فبعد أن كان الأميركيون يلجمون جموح حكومة بنيامين نتانياهو فينصحون بعدم المغامرة كي لا تضطر واشنطن للتدخل من أجل نجدته، باتوا يميلون إلى التساهل معها، قبل 3 أسابيع من القرار المنتظر لدونالد ترامب في شأن الاتفاق النووي مع طهران. والنقاش بين الحليفين قد يفضي إلى معادلة جديدة للإدارة الأميركية: صحيح أن هناك محاذير للمواجهة مع إيران لكن هذه المرة لن تحول دون قيام تل أبيب بها…
تستمر محاولات الدولتين الكبريين لحصر المواجهة بالحرب بالواسطة. لكن تطورات الأسابيع الماضية جعلت من الصعوبة بمكان أن يختبئ كل منهما وراءها.