نفذت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تهديداتها وضربت مواقع عسكرية سورية، قبل الانتهاء من التحقيقات حول استخدام الجيش السوري للأسلحة الكيماوية، ولم تستجب الدول الثلاث لتحذيرات موسكو وطهران ودمشق من أن الضربة سيكون لها عواقب وخيمة ومقلقة للمنطقة بأكملها، ولم يتم الرد من قبل سوريا أو الدول المحذرة، لكن تركيا التي اجتمعت مع طهران وموسكو قبل أيام باركت الضربة التي قال عنها الإعلام السوري إنها لم تحقق أهدافها وتم التصدي لها وإسقاط العشرات من الصواريخ الغربية، وإن الضحايا يعدون على أصابع اليد الواحدة، وقال البيت الأبيض إن الدفاعات الجوية السورية لم تكن فعالة بشكل كبير، أي أنها كانت فعالة بقدر ما.
إن القيام بهذه الضربة يثبت أن الولايات المتحدة تريد الاحتفاظ بماء وجهها، خاصة بعد أن كتب الرئيس الأمريكي على صفحته في «تويتر» أن الصواريخ جاهزة وستنطلق في أي وقت إلى أهدافها المرسومة، ولهذا كانت الضربة دراماتيكية ومسرحية أكثر منها انتقاماً من اتهامات باستخدام الجيش السوري للأسلحة الكيماوية، والأمر ذاته ينسحب على فرنسا وبريطانيا الدولتين اللتين استعدتا للانضمام للولايات المتحدة، وبهذا تكون الحفلة الاستعراضية قد اكتملت وعاد الممثلون إلى قواعدهم لتظهر رئيسة وزراء بريطانيا تتحدث لوسائل الإعلام وكأنها وزير دفاع.
الضربة شكلت رسالة سياسية أكثر منها عسكرية، إذ يقال إن 50 صاروخاً استهدفت مبان فارغة، والأهداف الأخرى يقال إنه تم تفريغها وإخلاؤها، والرسالة السياسية موجهة لروسيا في المقام الأول على الرغم من تجنب الدول المهاجمة لأهداف روسية أو قواعد يوجد فيها جنود أو خبراء روس. وتقول الرسالة إن على روسيا أن تفهم أن لا شيء يمنع أو يحول دون تنفيذ ضربات ضد حليفتها سوريا، وعليها الجلوس إلى المفاوضات للتباحث بشأن المصالح، وربما أن تقوم روسيا بالضغط على الأسد للقبول بتسوية معينة، كأن يستقيل وينقل السلطة. والرسالة أيضاً موجهة لطهران التي تكرر دائماً بأنها سترد على أي اعتداء ضد جنودها وخبرائها، ونتداعى ونقول إن الضربات لم تصب أيضاً كوادر إيرانية، أي كانت دقيقة بحيث لا تستدرج الدولتين روسيا وإيران إلى أعمال حربية أو مواجهات.
وشكلت الرسالة أيضاً دعماً للمسلحين على الأرض الذين بلا شك يعيشون حالة انتشاء رغم خساراتهم الفادحة، إذ تسلم الأمن السوري والروسي الأمن في مدينة دوما آخر معاقل المسلحين في الغوطة الشرقية، وقد يكون السيناريو القادم إعادة تسليحهم، ولكن يُخشى أن يكون الوقت قد فات لهذا الأمر، وعليهم تقبّل الهزيمة. لكن الهزيمة لا تعني الاستسلام الكامل، إذ ستبقى مجموعات هنا وأخرى هناك تناوش الجيش السوري وحلفاءه لتقض مضجعهم وتبقي على حالة من عدم الاستقرار في سوريا إلى أمد بعيد.
الرد على الضربة كلام لا يعدو أكثر من رفع المعنويات، إذ يقول المنطق البسيط: أين سيكون الرد؟ هل سيتم توجيه صواريخ إلى واشنطن ونيويورك أم إلى قواعد أمريكية في المنطقة؟ وباختصار شديد لن يتم الرد وإن انتفخت أوداج السوريين والروس والإيرانيين، لأن أي رد مباشر سيساهم في مواجهة لا أحد يعلم مآلها، ولهذا ستستمر روسيا بدعم الجيش السوري للتخلص من المسلحين وستطاردهم في معاقلهم، أو قد تتوصل إلى اتفاقات لخروجهم إلى أماكن أخرى، وربما إلى إدلب، حيث المواجهة الكبرى والصعبة والمعقدة بسبب الوجود التركي وقرب الشمال السوري من تركيا، وهو محور مستقل يطول شرحه لأنه يتعلق بالسياسة الخارجية التركية وعلاقاتها مع دول الناتو، لكنه يتعلق أيضاً بعلاقة تركيا مع المسلحين، حيث تدعم جزءاً منهم وعلى وجه التحديد الجيش السوري الحر الذي بعثته من جديد، وكانت قد دعمت المجموعات المسلحة المتطرفة في السابق وهذا ينسجم مع توجهات النظام التركي وتوجهاته الإخوانية.
إن ما حدث فجر السبت الماضي لا يُستهان به على الصعد كافة لاسيما أن الأجواء آخذة في التوتر بين روسيا والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية وخاصة بريطانيا، على خلفية تسميم الجاسوس سكريبال، وشكل ذاك الحدث الشرارة التي أحيت الحرب الباردة من جديد وقسمت العالم مرة أخرى إلى شرق وغرب. وحين نقول إن الضربة ممسرحة لا نعني بها التمثيلية بل على العكس، لا نعتقد أن هناك تنسيقاً أو اتفاقاً روسياً -أمريكياً بشأنها، وإنما هي ممسرحة كون الضربة لم تكن جادة، وإنما قد تكون ما قبل الجادة، ولهذا نسميها رسالة دبلوماسية وعسكرية في الوقت ذاته.
لأول مرة تتحول سوريا فعلياً إلى ساحة صراع عالمي حقيقية، وهذا ينسجم مع الآراء التي تقول إن النظام فقد السيطرة على قراره بنسبة كبيرة، رغم مسرحيات التأييد أيضاً التي خرجت بعد الضربات الجوية، وهذا التحول لا يفرح أحداً، لأن جزءاً من العالم العربي في طريقه إلى أن يخرج من المنظومة العربية بأي شكل كان، ولهذا على الجامعة العربية أن تتدخل ليس لحماية النظام ولكن لحماية الشعب السوري من المزيد من المعاناة.