من سوء حظ العرب أنهم يكونون دائماً الضحية سواء كان النظام العالمي تحت سيطرة قطبين أو عدة أقطاب أو قطب واحد.
فعندما تأسست «إسرائيل» في عام 1948 كانت الولايات المتحدة تعترف بها بعد 11 دقيقة فقط. وكان الاتحاد السوفييتي يعترف بها بعد ثلاثة أيام. وكرت السبحة. كان العالم منقسماً بين معسكرين وقطبين. لم يرحم أحدهما العرب ولا الفلسطينيين. اتفق الكبار عليهم؛ فكانت كارثة العصر ونكبة العمر.
وعندما انتهت الحرب الباردة، وتفردت الولايات المتحدة بالهيمنة على النظام العالمي الجديد كانت «اتفاقية أوسلو»، التي جعلت من القضية الفلسطينية «سلطة»، وهي لم تغادر بعد مرحلة الثورة ولا التحرير؛ فانشغل أهلها بغنائم الحكم الزائف، وتحولت إلى شرطة لحماية الاحتلال. توقف النضال المسلح وغير المسلح وصولاً إلى تجرؤ الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب على الاعتراف بالقدس عاصمة للدويلة الغاصبة.
المتغير في السنوات الأخيرة ولا سيما العشر الأخيرة؛ هو محاولة روسيا بزعامة فلاديمير بوتين استعادة وهج فقدته مع انتهاء الحرب الباردة، ومع وجود رئيس ضعيف ومسلوب الإرادة مثل بوريس يلتسين، نجح الزعيم الروسي في انتشال الدب الروسي من غفوته واستجمع عناصر قوته في الحد الأقصى الممكن.
وبعد خديعة الأمريكيين والفرنسيين في ليبيا ضد روسيا، وتفسير قرارات مجلس الأمن بأنها دعوة لغزو ليبيا ردّ الروس في سوريا بإنزال كل قواتهم وثقلهم؛ لحماية وجودهم وقواعدهم في سوريا، مستخدمين «الفيتو» عدة مرات؛ لمنع صدور أي قرار عن مجلس الأمن يحتمل أية تفسيرات خادعة؛ وبذلك حمى الروس وجودهم في سوريا، وطوروا لعبتهم هناك مستغلين أية فرصة لتعزيز النفوذ. وكان التحول الأكبر هو تحويل الخطر إلى فرصة تاريخية.
والمقصود هنا حادثة إسقاط الطائرة الروسية من جانب تركيا، وتحويل الخلاف إلى شراكة استراتيجية. الرهان الروسي الأساسي هو إبعاد تركيا عن الغرب، والاقتراب من روسيا وجعلها شريكاً لها. الأسبوع الماضي نجح الروس في ذلك؛ من خلال تدشين بناء المفاعل النووي الروسي في مرسين، وتأكيد أن منظومة صواريخ «أس 400» ستصل إلى تركيا في يوليو/تموز 2019، والاستمرار في بناء أنبوب الغاز الروسي تحت البحر الأسود إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا. بالطبع كان الثمن الذي نالته تركيا كبيراً؛ وهو احتلال المزيد من الأراضي في الداخل السوري من إدلب إلى عفرين وصولاً إلى جرابلس مع التهديد باحتلال المزيد.
مع تغير المعادلة في سوريا لمصلحة روسيا يستشعر الأمريكيون أن وقف التقدم الروسي هو أولوية؛ لأنها العقبة الوحيدة، التي لا تزال أمام استعادة التفرد في الهيمنة على العالم خصوصاً مع خشية كبيرة من تقدم الصين على الساحة الدولية، وتشكيلها مع روسيا ثنائية قادرة على المواجهة.
ما يريده ترامب من توجيه ضربات إلى سوريا ليس سوى إرباك الروس، ومنعهم من استكمال تقدمهم في الشرق الأوسط.
وما يمكن أن نخلص إليه أن التعددية القطبية مهما كانت سيئة هي أفضل للعرب من الآحادية القطبية؛ فالولايات المتحدة في حال وجدت الساحة العالمية، وخصوصاً ساحة الشرق أوسطية خالية لها من أي خصم قوي ستوقع العرب في مصيدة الاستسلام الكامل لـ«إسرائيل» والتخلي الكامل عن القضية الفلسطينية، وفي أحسن الأحوال ترك الفتات لهم؛ ليكونوا الأيتام على مأدبة اللئام.
بمعزل عن هوية الطرف المناوئ للولايات المتحدة في الشرق الأوسط أو العالم، فإن إعادة التوازن أو بعض التوازن إلى النظام العالمي لن يكون مضراً للعرب، وسيبقى في كل الأحوال أفضل من عودة الولايات المتحدة للتحكم الكامل بالنظام العالمي. والأهم أن مهمة التصدي للآحادية الأمريكية ومعها أداتها «الإسرائيلية» أكثر من ضرورة وواجب وطني وقومي لكل العرب، وليس لفئة واحدة منهم. فما وصلت إليه القضية الفلسطينية في السنوات الثلاثين الأخيرة بائس للغاية. وإذا ضاعت القدس بكاملها كما يفعل التوأم الأمريكي- «الإسرائيلي» اليوم، وإذا استمر قضم أراضي الضفة الغربية، فماذا يبقى من القضية الفلسطينية سوى بضعة أناس ولو بالملايين لا يملكون سوى التبعية والعيش في ظل ذلّ «السيد»؟!.
كسر الآُحادية الأمريكية أكثر من ضرورة، والأمل الأخير لمنع تصفية القضية الفلسطينية. فهل من يسمع ويدرك ويتدارك ويستدرك؟.