دفع الرئيس المصري الراحل أنور السادات حياته ثمناً لثقة، لم تكن في محلها، في المتأسلمين عموماً و «الإخوان» خصوصاً، عندما تراجع عن سياسات سلفه جمال عبدالناصر في مواجهة نشاط الجماعة وأفكارها، وأطلق قادتها ورموزها من السجون، ومنح عناصرها حضوراً في الشارع، وأطلق العنان للتنظيم ليمارس السياسة تحت غطاء الدين، ويتواصل مع الجماهير ويدير نشاطات موازية لنشاطات الدولة، فأصبح لـ «الإخوان» مدارسهم ومستشفياتهم ومتاجرهم ومصانعهم ومزارعهم ومساكنهم… بل ومنتجعاتهم!! ربما كان الرجل يدرك خطر التنظيم، لكن حساباته الخاطئة جعلته يعتقد أن في استطاعته كبح جماح «الإخوان» وقتما يريد، وأن في قدرته سجنهم جميعاً حين يقرر. وسيطرت رغبته في التصدي لمعارضيه وخصومه من اليساريين والناصريين على منطق الأمور، واعتبر «الإخوان» معادلاً لخصومه وأن حضورهم في الجامعات والشارع والمؤسسات كفيل بتحقيق توازن سياسي في المجتمع، من دون أن يدري أن «الإخوان» دائماً لديهم مبررات لتبديل المواقف والتحالفات وفق المصالح والأهداف، فانقلبوا عليه حين تأكدوا أنهم نالوا ما كانوا يطمعون فيه، وعندما تأكدوا أنه سيتراجع عن منحهم المزيد من المزايا.
استغل «الإخوان» ثلاثة عقود، هي عهد حسني مبارك، في بناء أرضية جماهيرية واسعة، وتكوين ظهير شعبي من المتعاطفين، وبناء إمبراطورية اقتصادية ضخمة، وتحقيق اختراق سرطاني لمؤسسات الدولة، وانتهى الأمر بما حصل مع الربيع العربي وبعده، وكل التداعيات التي حدثت والمآسي التي عاشها الشعب المصري نتيجة حكم الجماعة، والأهوال التي عانى منها الناس نتيجة نزع السلطة عن التنظيم، والتحالفات التي كان «الإخوان» يعقدونها مع دول وجهات خارجية وتنظيمات إرهابية في الداخل ليضغطوا على أي حكم يأتي بعد حكم الجماعة، بهدف إفشاله وإرغامه على التصالح معهم، أو منحهم من جديد فرص الصعود إلى المسرح السياسي والحضور المجتمعي.
لم يأخذ مبارك العبرة من تجربة السادات مع «الإخوان»، وكانت النتيجة أيضاً أن استخدم التنظيم كل ألاعيبه ليُحوِّل احتجاجات فئوية محدودة إلى اضطرابات وفوضى وتظاهرات ضخمة أفضت إلى إطاحة مبارك نفسه من الحكم، ومن ثم قفزت الجماعة فوق مقاعد السلطة!!
المؤكد أن مسألة التعاطي في المستقبل مع «الإخوان» لا تعتمد على رأي كاتب أو محلل أو سياسي أو ناشط، أو حتى خبير استراتيجي، وإنما تخضع لاستراتيجية الدولة ومؤسساتها. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس عبدالفتاح السيسي يتفادى عادةً الإشارة إلى «الإخوان المسلمين» كجماعة وتنظيم، ويكتفي بتعبير «أهل الشر» عند حديثه عن ما حصل أثناء فترة حكم الجماعة لمصر، أو التداعيات التي حدثت بعدها. والمؤكد أن الرجل، وهذا يبدو من كلامه وأفعاله، لا يفرق بين «الإخوان» و «داعش» وبين «حركة حسم» و «لواء الثورة» التابعين لـ «الإخوان» وبين «القاعدة» أو «الجهاد»، فكلها مجرد مسميات لتنظيمات إرهابية.
المهم في الأمر أن رأي السيسي في جدوى دعوات المصالحة، أو في العفو عن «الإخوان»، أو فتح قنوات حوار مع المتعاطفين مع هـذا التنظيم، قاطع وحاد وواضح ولا مجال لتأويله أو تفسيره بغير ما قصده. وهو قال نصاً حين سئل في حوار تلفزيوني قبل أسابيع عن «الإخوان»: «هم أصحاب فكر خطير غير قابل للحياة حتى مع نفسه. وحين يمتلك القوة أو الحكم، فإن هذا التنظيم يقتل نفسه، سنتعامل مع هذا الملف بالقانون والحزم المطلوبين»، ثم تهكّم على دعوات المصالحة قائلاً: «قولوا لي أخرجهم وسأخرجهم ولكن لا تسألوني وقتها عن أمن واستقرار، قرار الشعب ملزم بالنسبة لي وإذا رأى الشعب ذلك سألتزم بالقرار ولكن لا أحد يسألني وقتها عن أمن وأمان وعمل وشغل وتنمية، وما دام الشعب متمسكاً بالتفويض لمحاربة الإرهاب فأنا معه».
تُقابل الآراء التي تطرح بين وقت وآخر للحوار مع «الإخوان»، أو الصلح مع التنظيم، أو مهادنة الجماعة واحتضان المتعاطفين معها بغضب ورفض واستنكار من عموم المصريين، بينما تستخدمها المنصات الإعلامية لـ «الإخوان» للإيحاء بأن الحكم منهك ويرغب في حوار مع الجماعة، لكن الحقيقة الراسخة أن المواجهة بين الدولة المصرية وجماعة «الإخوان المسلمين» وصلت إلى مرحلة «كسر العظام»، وعظام الدولة التأمت وصارت متماسكة، بينما الجماعة تعاني انكساراً وهزائم وكسوراً وهشاشة في عظامها… الدولة القوية لا تتحاور مع جماعات إرهابية ولا المتعاطفين مع الإرهابيين، وإنما تواجههم… وهكذا تفعل مصر الآن.