اعتدنا عندما نطور عملاً أو نستخدم تقنية جديدة أن نخفض العمالة، هذه سنة الحياة، ومن يقارن اليوم بالأمس سيكتشف أن المصانع والمزارع استغنت عن الآلاف من العاملين لديها، وقد كنا نراهم قبل ثلاثين وأربعين سنة، خاصة في الدول الصناعية والناهضة، وكانت حافلاتهم تملأ الشوارع منذ شروق الشمس.
الآلة تطورت والإنسان لم يتطور، إنه هو ذلك الذي كان قبل آلاف السنين، جسد برجلين ويدين وعينين ولسان وعقل وقلب، إذا كان قوي البنية ضاعف عطاءه، وإذا أصابته حمى خارت قواه، وإذا كح أخذ إجازة مرضية، وإذا ضعف بصره بعد الكبر أفسد الإنتاج ودمر المحصول وأضاع الأرباح، والآلة تتقدم، كانت تسير على عجلات فأصبحت بحاجة إلى سكة كهربائية.
وكانت ترفع المعدات الثقيلة فتحولت إلى وسيلة تركيب وشد أجزاء على بعضها البعض، وفي الحقل كانت تحرث مكان الثور، وبعد فترة أصبحت تبذر البذور، ثم صارت تحصد المحاصيل وتفرز الغلال، وفقدت اليد العاملة أغلب وظائفها في المصانع والحقول، فذهب الإنسان إلى العلوم، واخترع الحواسب حتى حولها إلى حجم الكف يتلاعب بها الجميع، وأصبح الكل تقنيين، وتربت أجيال جديدة على الإبداع.
هكذا أسموا الحقبة التي نحن فيها، وظهرت وسائل تشغل أوقات الفراغ لدى الملايين الذين أفقدتهم التقنية الحديثة فرص العمل، «تويتر» على «فيسبوك» على «انستغرام» على «يوتيوب»، كل ذلك بعد الشبكة العنكبوتية، الإنترنت الذي يشغل كل تلك الأسماء التي ذكرت، وامتلأت المقاهي بالشباب.
ففي السابق كانت ملاذاً للطاعنين في السن، أولئك المحالون على التقاعد، واليوم نجد المراهقين يتجمعون هناك، يتراصون على الأرصفة وهواتفهم في أيديهم، إنهم يتواصلون اجتماعياً كما قيل لنا، ولكن الثابت أنهم يتواصلون بشتى الطرق وفي كل المجالات، سياسياً واقتصادياً وفكرياً وثقافياً، ويتشكلون وهم يحتسون القهوة الأجنبية، ولا ينتجون شيئاً!
تلك المشاهد قد لا تكون واضحة لدينا هنا، ولكنها ملفتة للنظر في الدول العربية والأجنبية المكتظة بالسكان، ولا أحتاج لأن أحددها، يكفي جولة سريعة في قلب عواصمها حتى نتعرف عليها، واللوم، كل اللوم، يقع على الحالة الاقتصادية، وفوقها بعض المشاكل الطارئة عربياً نتيجة ذلك الربيع الذي لم يثمر غير الدمار، وهو أيضاً كان من ثمار منصات التواصل الاجتماعي، التكنولوجيا المبهرة والمهيمنة المتسببة في تحطيم العلاقات البشرية، والمتهمة بأنها وراء الفوضى الدولية..
قبل أيام قرأت «بشارة» يبشرنا بها أحد اتباع الإبداع، عدد خلالها أسماء المهن والوظائف التي ستختفي قريباً، وهذه لها حديث لاحق.