نون والقلم

د. إدريس لكريني يكتب: المسؤولية الدولية وجرائم الاحتلال «الإسرائيلي»

تحيل المسؤولية إلى أهلية وكفاءة الشخص سواء كان طبيعياً أو معنوياً للمساءلة والمحاسبة على سلوكاته وأفعاله وما يترتب عنها من نتائج وأضرار. والمسؤولية هي نتاج للحرية، ذلك أن هذه الأخيرة توفّر سبل الاختيار، فيما المسؤولية تحاسب وتقيّم الأداء والاختيار.

وهناك أشكال مختلفة من المسؤولية، وخلافاً للمسؤولية الأدبية التي تنتج عن إخلال شخص ما (كان طبيعياً أو معنوياً) بالتزام تفرضه الضوابط الأخلاقية، فإن المسؤولية القانونية تترتب نتيجة إخلال هذا الشخص بالتزام قانوني.

وهناك عاملان أساسيان يرسّخان الشعور بالمسؤولية لدى الفرد، الأول، اجتماعي يرتبط ببيئة الفرد وظروف حياته ومحيطه الأسري وعلاقاته الاجتماعية، وما تراكم لديه من خبرات ومخاوف من التّعرض للعقاب أو التّأنيب وترسّخ لديه شعوراً بالمسؤولية إزاء أفعاله وسلوكاته أمام المجتمع، إضافة إلى المسؤوليات التي يحدّدها القانون، في جانبها المدني والجنائي تبعاً لشروط محدّدة ترتبط بسنّ الرشد القانوني والعقل..

والثاني، أخلاقي ينطوي على بعد إنساني، يروم توطيد العلاقات بين الفرد ومحيطه الاجتماعي، ويتطوّر بصورة كبيرة، ليطال العلاقات الأسرية والاجتماعية المختلفة، وهي مسؤولية ترمي في أبعادها الكبرى إلى تحقيق وضعية مثالية من الأمن والسلم داخل المجتمع، كما أنها ترتبط بجزاء أو عقاب مادي تفرضه الدولة، كما هو الشأن بالمسؤولية الجنائية التي تنحو إلى تحقيق حدّ أدنى من الأمن والاستقرار داخل المجتمع..

وإذا كانت إثارة المسؤولية على المستوى الداخلي للدول لا تثير إشكالات كبيرة، فإنّ طرحها على الصعيد الدولي يثير إشكالات قانونية وسياسية كبرى، بالنظر إلى الإشكالات التي تطرحها طبيعة القانون الدولي، وغياب آليات صارمة لتنفيذ مقتضياته في هذا الخصوص، مع حرص الدّول على التذرع بسيادتها، بما يجعل إثارتها في مواجهة القوى الدولية الكبرى أمراً صعباً بل ومستحيلاً في كثير من الأحيان.

تثار المسؤولية الدولية عادة، عندما يتعلق الأمر بوجود سلوك دولي مخالف للالتزامات القانونية، يرتكبه عضو من أعضاء المجتمع الدولي وينتج عنه إحداث ضرر مادي أو معنوي لشخص دولي آخر، وهو ما يتمخض عنه التعويض، مثلما هو الأمر بالنسبة لاحتلال الدول أو ارتكاب عدوان في حق دولة أو دول معيّنة..

تمثل المسؤولية الدولية ضمانة أساسية لأشخاص القانون الدولي العام بصدد مباشرة الحقوق المقررة لهم قانوناً وحمايتها. وهي تعدّ على المستوى الخارجي أحد إفرازات التحولات المتلاحقة التي شهدتها الساحة الدولية، ذلك أن طرح المسؤولية بهدف جبر ضرر الشخص المتضرر عن طريق التعويض أضحى من الموضوعات الهامّة للقانون الدولي، والتي تجسّدها المعاهدات الدولية وأحكام القضاء الدولي.

طرحت القضية الفلسطينية ضمن أولى الملفات الدولية الساخنة داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة منذ تأسيسها عام 1945 وشكّلت تحدياً واختباراً حقيقياً لقياس مصداقية هذه المنظمة ولجدية مبادئها وأهدافها، أمام جرائم الاحتلال الإسرائيلي المرتكبة في حق الفلسطينيين.

أصدرت المنظمة عدداً من القرارات والتوصيات، سواء من قبل مجلس الأمن أو الجمعية العامة (قرارات مجلس الأمن 242 و338.. وقرارات الجمعية العامة 3089 و3236 و2646 و2672..) خلال فترة الحرب الباردة التي خيّمت على العالم زهاء نصف قرن من الزمن، والتي تشكّل في مضمونها مرتكزاً لتأكيد الحقوق الفلسطينية المشروعة، غير أن هذه القرارات ظلت في غالبيتها دون فعّالية لغياب إرادة أو تدابير فعلية لتنفيذها، علاوة على الإشكالات التي طرحها استخدام حق «الفيتو» داخل مجلس الأمن بالنسبة لعدد من القضايا العربية العادلة وعلى رأسها قضية فلسطين..

أرخت الحرب الباردة بظلالها القاتمة على الأمم المتحدة، بعدما انتقل الصراع بين العظميين (الاتحاد السوفييتي سابقاً والولايات المتحدة الأمريكية)، إلى داخل مجلس الأمن ليشلّه جراء اشتداد هذه الحرب التي انتقلت رحاها إلى داخل هذا الجهاز المسؤول عن حفظ السلم والأمن الدوليين على امتداد ما يناهز نصف قرن من الزمن..

ومع انهيار المعسكر الشرقي، ونهاية الحرب الباردة، ساد الاعتقاد في الأوساط الدولية أن الأمم المتحدة ستشهد قدراً من التفعيل، بما يعيد الاعتبار والمصداقية لهذه المنظمة، التي تضررت بشكل كبير بفعل تداعيات الحرب الباردة، ويسمح بتحريك مقتضيات القانون الدولي ومبادئه الأساسية في ارتباطها بمنع استخدام القوة في العلاقات الدولية وتنفيذ الالتزامات بحسن نية وتسوية المنازعات بسبل سلمية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.. وتحريك آليات النظام الجماعي وتطبيق المسؤولية الدولية في مواجهة الدول المعتدية.. غير أن محكّ التنفيذ كشف زيف الشعارات التي أطلقتها الكثير من الدول الغربية في بداية التسعينات وعلى رأسها الولايات المتحدة عندما بشّرت بولادة نظام دولي جديد قوامه احترام حقوق الإنسان وتفعيل الأمم المتحدة وتعزيز التعاون والتنسيق العالميين وإقرار السلم والأمن الدوليين. ذلك أن خيار التفاوض بين طرفين غير متوازنين (الفلسطينيون من جهة، ودويلة «إسرائيل» من جهة أخرى)، لم يؤدّ إلى السّلام المأمول، بعدما تنكّرت «إسرائيل» لمجمل الاتفاقيات المبرمة، وقامت بارتكاب جرائم خطرة في حق الفلسطينيين عبر بناء جدار الفصل العازل، وتشجيع سياسة الاستيطان، ومصادرة حق العودة، وارتكاب المجازر اليومية في الأراضي المحتلّة عبر تنفيذ سياسات الاعتقال والإبعاد والحصار.. وممارسة العدوان العسكري..

أمام تنامي حدّة الجرائم «الإسرائيلية» في الأراضي المحتلة، لجأ الفلسطينيون إلى عدد من المؤسسات والأجهزة الدولية من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية ثم المحكمة الجنائية الدولية.. غير أن كل هذه الجهود ورغم وضوح معالم الجرائم المرتكبة، لم يتمكن المجتمع الدولي من تحريك المسؤولية الدولية بصدد عدد من الجرائم، بما يحصّن الاحتلال ويكرّس الإفلات من العقاب.

نقلا عن صحيفة الخليج

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى