صدر العدد الجديد من مجلة «الإسلام اليوم» الأكاديمية المحـكَّـمة، التي تصدر بالعربية والإنجليزية والفرنسية عن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة –إيسيسكو.
ويضم العـدد الجـديـد دراسةً حول (معوقات السلام في العالم المعاصر: المخاطر والتحديات) للدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري المدير العام للإيسيسكو، ودراسةً حول (الإسلام في العصر الحديث) للمستشرقة الألمانية الدكتورة آناماري شِـيمل، وبحثاً للدكتور محمد الكتاني بعنوان (أي منظور للتفكير في مستقبل أفريقيا)، وبحثـاً للدكتور محمود حمدي زقزوق عن (مفهوم التجديد وأبعادُه في التصوّر الإسلامي).
كما نشرت المجلـة مقـالاً للأستاذ عبد الكريم غـلاب بعنوان (تـأملات في مستقبل الإسلام)، ودراسةً للباحثَـيْـن الدكتور رحيم زاده، والدكتور مهدي أميروف حول (أسطورة التميّـز الأوروبي : المعجزة الأوروبية والركود الآسيوي)، وبحثـاً للدكتور أحمد أبو زيد عن (المستشرقة البريطانية كارين آرمسترونج العاشقة المحبة للإسلام ونبيّـه محمد).
وجاء في افتتاحية العدد الجديد من المجلة، تحت عنوان (في بناء السلام العالمي) «إن العالم يمـرّ خلال هذه المرحلة من التاريخ، بأزمات لا تَـتَـوَانَى عن التصاعد، ولا تنفـك عن الامتداد، ولا تتوقف عن التوسع، حتى انتهت إلى درجة انعدام اليقين في السياسة الدولية، وإلى الاختلال في موازين القوى على مستوى القوانين الدولية، والمبادئ الإنسانية، والقيم الأخلاقية، وليس فحسب على مستوى العلاقات الدولية ومراكز النفوذ، مما أدَّى بصورة تلقائية، إلى اضطراب في الأوضاع العالمية، وإلى انتشار للفوضى العارمة على أكثر من صعيد، وإلى استفحال للظواهر الشاذة الموغلة في الانحراف التي باتت تهدد الأمن والسلم الدوليين بدرجة أو بأخرى، ومنها، وفي طليعتها، ظاهرة الإرهاب الذي تعددت أشكاله حتى تداخلت وتعذر الفصل والتمييز بينها، وتنوعت مظاهره والوسائل والأساليب المستخدمة فيه، لدرجة أنها أصبحت خطراً محدقاً بالجميع، وتهديداً للحضارة الإنسانية بشكل عام، لم يسبق له مثيل حتى في الحرب العالمية الثانية التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر في أوروبا وآسيا وأفريقيا».
وأضافت الافتتاحية : «لقد نتج عن هذا التدهور المروّع في السياسة الدولية، اهتزازٌ في الاستقرار والتماسك والتضامن في الأسرة الدولية، وانحرافٌ في السياسات التي تنهجها الدول الكبرى التي توصف في الأدبيات السياسية بالقوى العظمى، لأنها تملك من وسائل الردع والبطش والتدمير، إلى جانب النفوذ الواسع، والغنى الباذخ، والتقدم العلمي والتـقاني المبـهـر، أكثر مما يملك غيرها من دول العالم. وبقدر ما يتسع نطاق هذا النفوذ ويتضخم حجم هذه القوة، تميل هذه الدول إلى انتهاك ميثاق الأمم المتحدة، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، وإلى الجنوح نحو ضروب متعـددة من التطرف في ممارسة السياسة على الساحة الدولية، دون مراعاة لأية اعتبارات قانونية، أو مبادئ أخلاقية، أو أعراف دولية، بل يؤدي بها هذا الجموحُ الجارفُ إلى أن تصبح دولاً هادمةً للسلام وليست بانية له».
وجاء في الافتتاحية « أن تلك هي المشكلة الكبرى والمعضلة العظمى التي يعاني منهما العالم اليوم أشـدَّ المعاناة، نتيجةً للتنافر القائم بين الهدم والبناء، وللتناقض المباشر بين القوة والضعف، باعتبار أن خرق القوانين الدولية هو في حقيقة الأمر، مظهرٌ من مظاهر الضعف، وليس هو مصدراً للقوة، بأية حال من الأحوال. فالخير والشر لا يجتمعان، والحرب لا تؤدي إلى السلام، والسلام لا يأتي من الحرب. فالحق حق والباطل باطل في الأحوال كلها. يقول الله تعالى : ﴿ويَمْحُ الله الباطل ويحق الحق بكلماته، إنه عليم بذات الصدور﴾. ويقول جلّ جلاله : ﴿ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون﴾».
وأكدت الافتتاحية أن « صناعة السلام ليست من مهام الدول المنتهكة للقانون الدولي؛ لأنها صناعة ثقيلة لا ينهض بها سوى القادرين على البناء، وليس المولعون بالهدم. ولذلك كان بناء السلام يقوم على المبادئ المثلى، والقيم العليا، وليس على القوة المادية الباطشة، والمكانة السياسية العالية، والمركز الرفيع والحضور الفاعل في الساحة الدولية، لأن هذه جميعَها عوارض زائلة، ومظاهر غير مستقرة، وأوضاع متقلبة لا يُـعتـمد عليها في إقامة علاقات دولية متوازنة ومنسجمة على أسس ثابتة وتصمد أمام عوادي الزمن، ولا تهتـز بالتقلبات التي تعرفها السياسة الدولية، ولا تتأثـر بالمتغيرات التي تطرأ. ولكن ما يُـعتـدّ به، حقيقةً، في هذه الحال، هو قوة العقل الراجح، وقوة الفكر المبدع، وقوة الإرادة التي تخضع للضمير الإنساني الحيّ، وقبل هذا وذاك، قوة القيم السامية التي منها انبثقت القوانين الدولية، وفي ضوئها اهتدت دول العالم إلى كتابة ميثاق الأمم المتحدة سنة 1945م. وهذه القيم جميعُها مستمدةٌ في الأساس من تعاليم الرسالات السماوية الخالدة، التي تحضّ على السلام، وتوصي بالسلام، وتهدي إلى الحق والخير والعدل والسلام. يقول الحق تبارك وتعالى : ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾».
وأوضحت أن «الصراع الناشب اليوم بين القوى العظمى التي أصبحت تَـتَـنَـافَـسُ على مواقع النفوذ في قلب العالم الإسلامي، وفي مناطق أخرى من العالم، يصبّ في اتجاه عرقلة الجهود الدولية لإقرار السلم والأمن، ولإزالة الأسباب التي تؤدي إلى اندلاع الحروب، واشتعال الأزمات على عديد من المستويات، على نحو يذكّـر بمرحلة الحرب الباردة التي كانت قائمة بين القطبين الأعظمين. وفي جميع الأحوال، فإن القوى العظمى غير مؤهلة أخلاقياً وإنسانياً، للانخراط في بناء السلام العالمي؛ لأنها تضع مصالحها الاستراتيجية فوق المصالح الإنسانية العليا، ولأنها أثبتت من خلال التجارب السابقة وفي المرحلة الحالية، أنها لا تكترث بالقوانين الدولية، وتضرب بها في أحايين كثيرة، عرض الحائط كما يقال، وهو صحيح بدون شك. ولذلك فإن تصحيح هذا الوضع المنحرف يقع على عاتق الدول المحبّـة للسلام، لإيقاظ الضمير العالمي، وعلى الرهان على تضامن الأسرة الدولية، لـردّ الاعتبار لميثاق الأمم المتحدة، وللالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولفرض إرادة السلام على غريزة إشعال الحرب. لأن السلام، فيما يظهر حتى الآن، ليس في مصلحة اللاعبين الكبار على مسرح السياسة الدولية. فالعقول التي تفكر في المصالح المادية، بغض النظر عن أية اعتبارات أخلاقية وثقافية وحضارية، وتضعها في الاعتبار الأول، وتتجاهل دواعي الوئام والانسجام والتعايش بين الأمم والشعوب، ولا تلقي بالاً للمآسي الفظيعة التي تعاني منها شعوب كثيرة منكوبة بالحروب والأزمات، إن هذه العقول لا تُـبنَى فيها حصونُ السلام إطلاقاً، بل هي التي تحرّض على الحرب، وتحفـز الإرادات الشريرة إلى الصراع الذي يولد الصدام، فتكون الحرب التي لا هدف لها سوى الدمار والخراب».
وقالت الافتتاحية إن « التبرير الأوروبي لظاهرة الاستعمار، هو نشر قيم الحضارة ووسائل المدنية في البلدان التي خضعت للاحتلال، تحت مزاعم متعددة واهية لا تمثل الحقيقة في شيء. ولا تزال الدول الغربية، خصوصاً القوى العظمى، تردد هذا التبرير بلغة جديدة وبأساليب حديثة، مع الزعم بأنها تعمل من أجل السلام العالمي، بينما السلام هو الضحية للسياسات المتعالية المتصادمة مع طبائع الأشياء والحقائق على الأرض، التي تنهجها، والتي تحيد فيها عن مبادئ الشرعية الدولية. وهو الأمر الذي يجيز لنا أن نقول إن العالم يعيش اليوم عصر (الاستعمارات الجديدة)، في ظل وجود مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية. فكيف تستقيم أحوال العالم، وتستقر أوضاعه، ويسود الأمن والسلام ربوعَـه، والحال كما وصفنا؟».
وانتهت افتتاحية العدد الجديد من مجلة (الإسلام اليوم) إلى « أن بناء السلام العالمي ليس مهمة مقصورة على القادة السياسيين فحسب، خصوصاً قادة الدول العظمى، وبالأحرى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، ولكن بناء السلام هو من صميم الرسالة الثقافية والحضارية السامية التي تنهض بها النخب العلمية والفكرية والأكاديمية والثقافية والإبداعية والرياضية، باعتبار أنها منظومة إنسانية مبدعة ومتجانسة، تؤمن بقيم السلام، وتناضل من أجل أن يسود السلام الأرض، وأن العالم يتطلع اليوم بقلق وشوق، إلى يقظة إنسانية عامة، تكون دافـعـاً قـويـاً لبناء نظام عالمي جديد على قواعد القانون الدولي، وليس على أساس قانون القوة والاغتـرار بها والنفـوذ الواسع والاعتـداد به، وللمحافظة على المبادئ الإنسانية، والقيم الأخلاقية، وعلى هدي الرسالات السماوية الخالدة والعمل بمقتضاها».