نكتب هذه السطور مع بدء فعاليات مسيرة العودة على حدود قطاع غزة، بعد ظهر أمس الجمعة، حيث وصل عدد الشهداء إلى 5، مع مئات الإصابات، ما يعني أن هستيريا الاحتلال قد بلغت ذروتها، والأرقام مرشحة للتصاعد.
المسيرة واعتصاماتها يُفترض أن تتواصل حتى منتصف أيار، في حين كانت هستيريا الاحتلال حيالها قد بدأت منذ أسابيع، حيث تواصلت التحذيرات على مختلف الأصعدة الأمنية والسياسية من تبعات المسيرة، كما لو كانت إعلان حرب، وليست مجرد نشاط سلمي لا يتضمن أي شكل من أشكال العنف أو السلاح.
لم يحدث ذلك فقط بسبب مخاوف التصعيد وصولا إلى الانفجار في قطاع غزة كما ذهب كثيرون، وإن حضر هذا البعد في السياق، بل حدث لأن الفعالية تفضح كيانا قام على الاغتصاب والتهجير، ويتهيّأ للاحتفال بعامه السبعين، والذي منحه «أوسلو» فرصة رهيبة للدعاية لنفسه، حيث نقل الصراع من معادلة شعب يواجه الاحتلال، وتم تشريد ثلثيه؛ إلى سلطة أو كيان ذاتي يطالب ببعض حقوقه، وصارت للفلسطينيين سلطة ورئاسة والكثير من هياكل الدولة، وإن كانت مفرّغة من مضمونها.
الفعالية الجديدة تعيد الصراع إلى وجهه الحقيقي، فهنا والآن، ثمة شعب تم تهجيره من أرضه ويريد العودة إليها، وهو ما ينص عليه قرار شهير لمجلس الأمن (194).
هنا لا يعلم كثيرون أن 65 في المئة من سكان قطاع غزة هم لاجئون، تركوا قسرا بيوتهم وأراضيهم في المناطق المحتلة عام 48، الأمر الذي ينطبق على حوالي 27 في المئة من سكان الضفة الغربية، بينما يعيش حوالي 6 ملايين من اللاجئين في دول الشتات.
ولنتخيل المشهد؛ مشهد المسيرة، ومشهد الهستيريا في صفوف العدو، لو تدفق اللاجئون الفلسطينيون من كل دول الطوق نحو الأراضي الفلسطينية، وبمسيرات سلمية أيضا، ماذا سيكون حال الغزاة وهم يمنعون بالقوة شعبا يريد ترجمة قرار دولي بعودته إلى دياره.
من الرائع أن جميع القوى الفلسطينية قد توحّدت في مسيرة العودة، بجانب الفعاليات الشعبية، ومؤسسات المجتمع المدني جميعا، وجميل أن تبدأ في تاريخ لافت هو «يوم الأرض»، وتتواصل حتى ذكرى النكبة، ولنتخيل لو تم ذلك في الضفة الغربية، وبذات الروح الوحدوية، ماذا سيكون حال الاحتلال؟ مع العلم أن مواجهات اندلعت أيضا في مناطق عديدة من الضفة، وفي الأراضي المحتلة عام 48.
لقد كانت تجربة القدس في معركة البوابات الإلكترونية ملهمة لهذه الفعالية. وفيها (أي معركة البوابات)، فرض الفلسطينيون إرادتهم على الغزاة، وهنا والآن، يمكن تكرار التجربة، واستمرار ذلك مرارا وتكرارا، وليتطوّر الفعل إلى انتفاضة شاملة في مواجهة الاحتلال، ترفع شعارا لا تردد فيه، عنوانه دحر الاحتلال عن الأراضي المحتلة عام 67، دون قيد أو شرط، ومن دون اعتراف للعدو بأي شيء، كي يبقى أفق النضال مفتوحا لتحرير الباقي.
العدو يدرك هذا البعد المتعلق بتدفق الجماهير نحو الحدود، ولذلك كانت استراتيجيته هي بناء الجدران من كل الجهات، لكن ذلك لن يحول دون التعبير عن رفض الاحتلال وفضحه بكل وسيلة ممكنة.
صحيح أن ثقافة المقاومة السلمية ليست قوية في الوعي الشعبي الفلسطيني، بسبب شراسة الاحتلال، والحاجة النفسية للرد عليه بالمثل، لكن ذلك يمكن أن يحدث بالتدريج، ويتصاعد بمرور الوقت.
مشهد عظيم هذا الذي تابعنا بدايته أمس في غزة، وبعض الفعاليات المتضامنة في الضفة، وما نأمله هو أن يتطور هذا الفعل بمرور الوقت.