يختلف رجب طيب إردوغان عن رؤساء الجمهورية التركية الذين تعاقبوا على هذا المنصب منذ قيام هذه الجمهورية في أواسط العقد الثالث من القرن الماضي. ويدغدغ أحلاماً كامنة في أذهان عدد غير قليل من الأتراك لإعادة إحياء تاريخ قديم.
ومن الصعب متابعة ما يفعله الجيش التركي حاليا في مناطق الشمال السوري من استيلاء على المدن وطرد أهلها وتغيير وضعها الديموغرافي، وما يهدد بالقيام به في شمال العراق خصوصاً في إقليم سنجار، من دون وضع كل ذلك في إطار أحلام التوسع التركي، سواء كانت هذه الأحلام قابلة للتحقيق أم لا، خصوصاً أنها تواجه ضغوط السياسات الدولية، وعلى الأخص المواجهة الأميركية والغربية لهذه الأحلام.
لم ينسَ إردوغان ظروف انهيار الإمبراطورية العثمانية، ولم ينسَ كذلك محاسبة من يعتبرهم «مسؤولين» عن هذا الانهيار، عرباً كانوا أم غربيين. ومثل أحلام أعداد لا بأس بها من العرب بإيقاظ نزعات «القومية العربية»، رغم ما خلفته الأحزاب القومية التي حملت تلك الشعارات من مآس، نحصد آثارها اليوم، يبدو حلم القومية التركية قابلاً هو أيضا لجذب المآسي. في التاريخ دروس عميقة لمن يعرف كيف يستفيد منها ويتعلم.
لا يخفي إردوغان حلمه الذي يعمل لتحقيقه من أجل أن تكون الجمهورية التركية «امتداداً للإمبراطورية العثمانية». في مناسبات كثيرة عبر عن ذلك، قبل توليه مسؤوليات رئاسة الحكومة ثم رئاسة الجمهورية. وفي مدينة إسطنبول تحديداً عمل على إحياء أكثر من موقع أثري يمثل رمزاً للحقبة العثمانية. ولا ضير في ذلك طبعاً لولا أنه يرتبط في ذهن إردوغان بمشروع سياسي أوسع. أثناء مشاركته في الاحتفال بالذكرى السنوية لوفاة السلطان عبد الحميد الثاني التي أقيمت الشهر الماضي في قصر يلدز بإسطنبول (وهذا احتفال جديد أحياه إردوغان) قال إن «هناك من يعمل على محو الماضي، وعلى أن يبدأ تاريخ تركيا سنة 1923 (تاريخ إعلان أتاتورك للجمهورية)، وهناك من يبذل جهده لانتزاعنا من جذورنا وقيمنا العميقة». وكان يرد بذلك على انتقادات أحزاب تركية معارضة ومواقف خارجية تدعو تركيا إلى احترام حدودها وحدود جيرانها.
ومثل كل الذين تنتفخ كبرياؤهم بأحلام العظمة، يستعين إردوغان وأمثاله بالتاريخ وبرجال الماضي، ولو كان هذا التاريخ أو رجاله لا يقدمون شيئاً ملموساً يفيد الحاضر. خذ مثلاً ما يفعله فلاديمير بوتين بروسيا التي تصطدم اليوم بمعظم دول العالم، فيما رئيسها يقرأ على مواطنيه من ذكريات كاترين الثانية وبطرس الأكبر، ويدغدغ أحلامهم بعظمة «القومية الروسية»، وبضرورة شعورهم بفخر الانتماء إليها.
يختلف رجب طيب إردوغان في أحلامه العثمانية عن معظم من سبقوه من رؤساء أو رؤساء حكومات، إن لم يكن كلهم. في ثمانينات القرن الماضي أتيح لي لقاء ثلاثة منهم، نشرت مقابلات معهم خلال تغطيتي آنذاك للأحداث التركية في الشقيقة مجلة «المجلة». من الجنرال كنعان إفرين، الذي قاد انقلاباً عسكرياً سنة 1980 وبقي رئيساً حتى 1982، ثم تورغوت أوزال الذي أشرف على تحسين العلاقات التركية – الكردية بعد سنوات طويلة من الخصومة والعداء والحملات العسكرية في مناطق الأكراد في الجنوب الشرقي، حتى نجم الدين أربكان، الذي يعتبره إردوغان والده الروحي. كلهم كانوا قانعين بالجمهورية التركية وبحدودها، وبعلاقات طبيعية مع جيرانهم العرب، وبعدم التدخل في شؤونهم، بمن فيهم أربكان الذي كانت في ذهنه دائماً صورة قاتمة للعلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي، لكنه لم يكن من الحالمين بإحياء الإمبراطورية العثمانية، مثلما هو إردوغان.
في تدخله في الحرب السورية، استفاد إردوغان من أن سوريا أصبحت أرضاً مفتوحة لكل من شاء التدخل بمبرر أو من دون مبرر. الروس والإيرانيون والأتراك موجودون على الأرض السورية، إما لدعم النظام وإما للمحافظة على مصالحهم المذهبية فيه، وإما بحجة محاربة «الإرهاب»، كما يزعم الأتراك في حملتهم الحالية في الشمال السوري. ومع أن إيران وقفت إلى جانب بشار الأسد منذ بدء الحرب، وروسيا تدخلت قبل سنتين لإنقاذ الرئيس السوري، عندما كان نظامه مشرفاً على الانهيار، فقد كان البلدان صريحين في أهدافهما من وراء المشاركة في الحرب السورية، لكن إردوغان وحده بقي يرفع الشعارات عن محاربة النظام السوري والدعوة إلى إسقاطه، فيما كانت قواته تنسق على الأرض مع كل من موسكو وطهران، بحيث صار ممكناً الحديث عن «ترويكا» إيرانية – روسية – تركية لتقاسم الأشلاء السورية، وانتزاع ما أمكن منها، كلٌّ لحساباته ومصالحه الخاصة. وهكذا، فيما تتقدم عمليات التهجير في الغوطة الشرقية، التي كان يفترض أن تكون مشمولة باتفاق «مناطق خفض التصعيد»، تجري في الوقت ذاته عمليات تهجير مماثلة من بلدة عفرين ومحيطها، فيما يرفع إردوغان شعار «غصن الزيتون»، وذلك بحجة مكافحة «الإرهاب الكردي» الذي يقول الرئيس التركي إنه عدوه الأول. وذلك رغم أن الأكراد كانوا بين القوى التي واجهت تنظيم داعش سواء في سوريا أو في العراق، إن لم يكونوا في مقدمتها. كما كانت عفرين قبل حرب إردوغان عليها ملجأ لكل الهاربين من الحرب السورية، من مختلف الأديان والأعراق.
وينفذ الرئيس التركي عمليته تلك بواسطة قوات من «الجيش السوري الحر»، الذي كان يفترض أن يكون نواة لجيش سوريا الجديدة، بعد قيام نظام عادل يحافظ على حقوق مواطنيه كافة في ظل مبادئ التعايش والمساواة. وأذكر رهاننا، مع بدايات الثورة السورية، على الحلم المتمثل بمجموعة الضباط الذين انشقوا آنذاك عن الجيش النظامي، وشكلوا نواة ذلك الجيش، وكانوا من أبرز قياداته، من دون الدخول في تعداد الأسماء، ومن مختلف الطوائف والمذاهب، بما فيها الطائفة العلوية، الذين رفعوا شعارات كانت قابلة للتحول إلى مشروع استقطاب واسع. غير أن ضربات متتالية لتلك الشعارات، من النظام أولاً ثم من مختلف القوى الخارجية العاملة للحفاظ على مصالحها، بمعزل عن مصلحة السوريين، قضت على ذلك الحلم. وأخيراً جاءت الضربة القاضية من خلال إغراق «الجيش السوري الحر» أو ما تبقى من «أحراره» في المعركة ضد الأكراد السوريين في الشمال السوري، بذريعة محاربة «الإرهاب»، في تجاهل للأغراض التركية من وراء تدخل بهذا الحجم عند حدودها، يهدد بالتوسع إلى تل رفعت وإلى منبج، بل حتى إلى المنطقة الحدودية مع العراق، في إقليم سنجار ومحيطه.
ما أبعد الشعار الذي رفعه رئيس حكومة تركيا «المخلوع» أحمد داود أوغلو «صفر مشكلات مع الجيران» عمّا تشهده علاقات تركيا مع جيرانها هذه الأيام.