في مثل هذه الايّام قبل خمسة عشر عاما، كانت الدبابات الأميركية في طريقها الى بغداد انطلاقا من الجنوب العراقي. بلغت العاصمة العراقية في التاسع من ابريل. سقط النظام الذي أقامه صدّام حسين في ذلك اليوم مع سقوط تمثاله الذي هجم عليه وحطّمه مواطنون عاديون لا يعرفون ما الذي يخبئه لهم اليوم التالي. لم تعرف اميركا نفسها التي خاضت تلك الحرب المكلفة ما الذي كان يخبئ اليوم التالي لها وللمنطقة كلّها. لا يزال لغز حرب العراق لغزا مستمرا الى يومنا هذا.
ما الذي جعل إدارة جورج بوش الابن تربط العراق بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتختلق كلّ نوع من الأكاذيب كي تجد لنفسها مبرّرا لخطوة اجتياح العراق… من دون ان تكون اعدّت نفسها لمرحلة ما بعد الاجتياح؟
كان ذلك اليوم، اليوم التالي لاسقاط نظام غير مأسوف عليه، يخبئ بداية النهاية للعراق الذي لم يعرف يوما ابيض منذ انقلاب الرابع عشر من يوليو 1958، منذ حصول مجزرة قصر الرحاب وحلول العسكر مكان النظام الملكي. كان النظام الملكي في ظلّ الاسرة الهاشمية الضمانة الوحيدة للمحافظة على وحدة العراق، فضلا عن انّه كان يوفّر فرصة لتطوير النظام تدريجيا بعيدا عن القمع والقهر والسحل وتخلّف العسكر والبعث ثمّ الأحزاب المذهبية…
جاءت نهاية العراق على مراحل وصولا الى اليوم الذي استطاعت ايران تحقيق ما تصبو اليه بفضل الاميركيين. حملت الدبابات الأميركية الى بغداد قادة الميليشيات التابعة لاحزاب مذهبية عراقية قاتلت الى جانب الايرانيين في حرب 1980 – 1988. دخل العراقيون الموالون للنظام الايراني، من منطلق مذهبي، بغداد على الدبابة الأميركية. شيئا فشيئا تحوّلوا الى المنتصر الوحيد من الحرب الأميركية على العراق. كان سقوط العراق في يد ايران بمثابة الانطلاقة الثانية للمشروع التوسّعي الايراني الذي بدأ مع اعلان قيام «الجمهورية الإسلامية» بعد سقوط الشاه في فبراير 1979 امام ثورة شعبية حقيقية عرف آية الله الخميني كيف يخطفها ويقيم نظاما في أساسه نظرية «ولاية الفقيه».
ما نشهده اليوم في العراق، هو نتيجة طبيعية لحرب خاضتها إدارة جورج بوش الابن، بمشاركة إيرانية، من دون ايّ تقدير لعواقبها او للنتائج التي يمكن ان تسفر عنها. كانت هذه النتائج على الصعيدين العراقي والإقليمي. غيّر سقوط العراق في يد ايران التوازن الاقليمي تغييرا جذريا. انهار ما كان يصفه الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران بـ«الحدود التاريخية» التي يزيد عمرها على خمسمئة سنة بين حضارتين كبيرتين هما الحضارة العربية والحضارة الفارسية.
بعد خمسة عشر عاما على سقوط العراق، هل يمكن القول ان اميركا تعلّمت شيئا من تلك التجربة؟ الجواب بكلّ بساطة انّ ليس ما يشير الى انها تعلّمت. اللهمّ الّا اذا اقدم دونالد ترامب على خطوة تؤكد ان ادارته تختلف عن ادارتي جورج بوش الابن وباراك أوباما. سلّمت إدارة بوش الابن العراق الى ايران في حين تولّت إدارة أوباما مباركة عملية التسليم هذه عن طريق خطوات عملية. بدأت هذه الخطوات بالانسحاب العسكري الاميركي من العراق وقبول ان يكون نوري المالكي رئيسا للوزراء لفترة جديدة بعد حلوله ثانيا في انتخابات العام 2010 وراء قائمة الدكتور اياد علّاوي.
قد يكون الجواب الأكثر دقّة ان إدارة ترامب يمكن ان تكون أقدمت نظريا على خطوة أولى في اتجاه التعلّم من التجربة العراقية بعد التموضع العسكري الذي قامت به في سورية. مثل هذا التموضع العسكري في «سورية المفيدة» يمكن ان يؤدي في المستقبل الى قطع الطريق على قيام خط امداد إيراني بين العراق، الذي يسيطر عليه «الحشد الشعبي» في العراق والأراضي السورية التي تنتشر فيها، هي الأخرى، ميليشيات إيرانية من جنسيات مختلفة بينها ميليشيات إيرانية وأخرى لبنانية مثل «حزب الله».
باستثناء السيطرة على «سورية المفيدة»، أي سورية الواقعة شرق الفرات، والتصدي بعنف لأيّ طرف يسعى الى الاقتراب من تلك المنطقة، تتفرج اميركا على مأساة الغوطة الشرقية. تشبه تلك المأساة مآس أخرى في العراق ولبنان. في العراق، انتصر «الحشد الشعبي» على «داعش» في الموصل. ادخل نوري المالكي «داعش» الى الموصل وتولّت الميليشيات التابعة لاحزاب عراقية تتلقّى اوامرها من طهران تدمير مدينة عراقية كبيرة… فيما اميركا تتفرّج.
في العراق، هناك انتصار ايراني على العراقيين، عبر «الحشد الشعبي»، باسم الانتصار على «داعش». وفي لبنان، هناك انتصار إيراني، عبر «حزب الله»، على اللبنانيين، باسم الانتصار على إسرائيل. في سورية، هناك انتصار إيراني، عبر سلاح الجو الروسي ومليشيات النظام، على الشعب السوري باسم التخلّص من «التكفيريين».
كلّ هذه الانتصارات التي تحقّقها ايران، مستخدمة ادواتها المحلّية، ما كانت لتتحقّق على العراقيين والسوريين واللبنانين، لولا سقوط العراق في مثل هذه الايّام من العام 2003.
الأكيد ان هناك تغييرات كبيرة تجري في واشنطن حيث دارت حرب أهلية داخل الإدارة. انتهت هذه الحرب، وربّما لم تنته كلّيا بعد، بخروج ركس تيلرسون من الخارجية وحلول مايك بومبيو مكانه. كذلك، حل جون بولتون في موقع مستشار الامن القومي مكان الجنرال هربرت مكماستر الذي اصطدم بجاريد كوشنر صهر ترامب.
ما يجمع بين بومبيو وبولتون هو العداء لإيران وسياساتها ومشاريعها. وهذا ما تكشفه مواقف الرجلين في السنوات القليلة الماضية. هل يعني ذلك الانتقال من الكلام الى الفعل؟ من السهل الكلام عن الأخطاء التي ارتكبها بوش الابن وباراك أوباما. الصعب هو اصلاح هذه الأخطاء التي ادّت الى المآسي الحالية في العراق وسورية ولبنان وحتّى في اليمن.
كان مهمّا ان يبدأ البيت الأبيض، على هامش زيارة وليّ العهد السعودي الامير محمّد بن سلمان، الربط بين الحوثيين في اليمن و«الحرس الثوري» الايراني. هذا تطوّر مهمّ يدفع الى التساؤل هل بدأت تتشكل إدارة أميركية قادرة على استيعاب تعقيدات الشرق الاوسط، خصوصا تلك الناجمة عن قرار جورج بوش الابن القاضي باحتلال العراق ثم قرار أوباما القاضي باختزال كلّ أزمات المنطقة بالملفّ النووي الايراني؟
تكمن نقطة البداية في الاقتناع بانّ الموضوع ليس موضوع تصريحات نارية لا ترجمة لها على أرض الواقع. يصعب الرهان على من يتفرّج على إبادة الشعب السوري في الغوطة الشرقية وتهجيره من ارضه. يصعب في الواقع فهم كيف تستطيع إدارة أميركية، تدّعي انها تعرف تماما ما ارتكبته ايران منذ العام 1979، الوقوف مكتوفة حيال ما يجري على الأرض السورية.
لعلّ اصعب ما في الامر انّ اميركا موجودة عسكريا في سورية، كما انّها موجودة في العراق. هل وجودها دليل على انّها ترفض ان تكون اكثر من شاهد زور على إعادة تشكيل الشرق الاوسط في ظلّ الميليشيات المذهبية التابعة لإيران بغطاء من سلاح الجوّ الروسي… ومشاركة تركية ورسائل إسرائيلية ليس معروفا بعد ما هو البعد الذي ستتخذه.