نون والقلم

عبدالله الأيوبي يكتب: العراق.. تحدي ما بعد الإرهاب

صحيح أن المجموعات الإرهابية وفي مقدمتها ما يعرف بـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) شكلت التحدي الكبير الذي هدد مستقبل العراق وشغله عن التفرغ لبناء الدولة بعد جريمة الغزو الأمريكي في مارس من عام 2003 والتي كانت السبب الرئيسي الذي ألقى بالعراق في جحيم من الصراعات الدموية التي هددت نسيجه الاجتماعي وتسببت في قتل وتشريد مئات الآلاف من أبنائه من مدنهم وقراهم بعد أن أصبحوا مكشوفين جراء إقدام سلطات الاحتلال الأمريكي على تدمير القوى العسكرية والأمنية العراقية في إطار مخطط تدمير الدولة العراقية برمتها، لكن هذا التحدي، وإن كان كبيرا وجادا، إلا أنه لم يكن الوحيد الذي تسبب في عدم قدرة العراق على الخروج من المأزق الذي وجد نفسه فيه بعد الغزو رغم إضعاف المجموعات الإرهابية والقضاء على البنية العسكرية الرئيسية لـ«داعش».

في إطار مشروع هدم الدولة العراقية وتعقيد قدرة العراق على النهوض من وحل الصراعات التي خلفتها جريمة الغزو، تفتق عقل المحتل الأمريكي سياسيا فأوجد نظاما «توافقيا» يتولى تسيير شؤون العراق السياسية عبر منظومة سياسية عمادها الإطار الطائفي، وهي المنظومة التي رضيت بها القوى السياسية العراقية التي جاءت إلى السلطة بعد إسقاط نظام حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، هذه القوى أغرتها الزعامة والسلطة بعد سنوات من الغربة السياسية عن المشهد داخل العراق بسبب سياسة القمع السياسي التي مارسها النظام السابق ضد خصومه السياسيين والآيديولوجيين، لكن هذه القوى تتحمل مسؤولية العجز والإخفاق السياسي الذي يواجه العراق في الوقت الراهن.

القوى السياسية التي تسيطر على المشهد السياسي في العراق وتتحكم في العملية السياسية التي باشرت خوضها بعد تسليم الاحتلال مقاليد السلطة إلى هذه القوى، هي قوى ذات جذور وانتماءات دينية ذات صبغة طائفية خالصة، فأكبر وأقوى الأحزاب السياسية الدينية هي أما سنية وإما شيعية، وبالتالي فهي تنطلق في برامجها واتجاهاتها السياسية من عقيدتها المذهبية ومراجعها الدينية، بغض النظر عما تطرحه من مواقف سياسية تكون في ظاهرها أنها مواقف وطنية جامعة، وقد يكون بعض من هذه الأحزاب صادق في مواقفه إلا أنه لا يقدر من حيث القناعة الفكرية على أن يتحرر من انتماءاته المذهبية عندما تحين لحظة تحديد المواقف السياسية.

هذا الوضع السياسي الذي يعيشه العراق وهيمنة قوى الإسلام السياسي بجناحيه الشيعي والسني على الحياة السياسية في العراق، يعتبر واحدا من المخاطر الجادة التي تهدد بناء دولة المواطنة الحقيقية، فالخطر الذي يمثله هذا التحدي على مستقبل العراق لا يقل خطورة عن تهديد النزعة الانفصالية التي تتسيد مواقف القوى الفاعلة في إقليم شمال العراق (كردستان) والتي كادت مواقفها تشعل حربا أهلية داخلية بعد إصرار تلك القوى على إجراء استفتاء الانفصال في شهر سبتمبر من العام الماضي.

ما لم يتحرر العراق من هيمنة قوى الإسلام السياسي بشقيه، فإن تحدي بناء دولة المواطنة الحقيقية والصحيحة سيبقى قائما بل وسوف يتصاعد في المستقبل، ذلك أن استفحال سيطرة قوى الإسلام السياسي على المشهد وتبوُّؤَها الدائم والمستمر لزمام القيادة، وإن كان ذلك نتيجة لما تقرره صناديق الاقتراع الانتخابي، فإن الأقليات الدينية والعرقية ستشعر على المدى البعيد بالتهميش وعدم المشاركة الفعلية في تحديد مستقبل بلادها، فهذه الأقليات، وخاصة الدينية منها، سيكون من الصعب عليها الانخراط في هياكل تنظيمات قوى الإسلام السياسي، وهذا من شأنه أن يعزز من الانشطار العمودي الذي يرسم المشهد الحالي للعراق.

كيف يخرج العراق من هذا المأزق السياسي الجاد؟ بل كيف يمكن إخراجه من ذلك؟ فأحزاب الإسلام السياسي لا يمكن أن تفرط أو تتنازل على المكتسبات التي بحوزتها ذلك أن الفكر الديني بشقيه المذهبيين يسيطر على السواد الأعظم من الوعي الشعبي في العراق وفي غيره من الدول أيضا، فيما القوى السياسية ذات التوجهات العلمانية تعاني ضعفا حقيقيا نتيجة أسباب كثيرة بعضها يعود إلى ممارسات سياسية وفكرية خاطئة وبعضها يعود إلى ممارسات السلطات الحاكمة التي وجهت إليها الكثير من الضربات الموجعة والمؤثرة، ورغم صعوبة هذا الوضع والصورة السوداوية التي يرسمها، فإن المستقبل لن يكون لصالح قوى الإسلام السياسي، فهناك بالتأكيد إرهاصات سياسية وتحولية داخل المجتمع العراقي جراء هيمنة القوى الدينية على المشهد وعجزها عن إخراج البلد من مأزق الاحتلال.

العراق سيكون قادرا على الخروج من مأزقه السياسي حين ينفض أياديه من هيمنة قوى الإسلام السياسي بعد أن يكتشف أبناؤه أن هذه القوى ليست هي المؤهلة والمهيأة لبناء دولة المواطنة العصرية التي تتوق إليها جميع مكونات الشعب العراقي، لكن ذلك ليس بالأمر السهل تحقيقه في المنظور القريب ذلك أن حضور قوى الإسلام السياسي والدعم الفكري والآيديولوجي الذي تحظى به من مختلف المؤسسات الدينية ذات الثقل التاريخي في الوسط الشعبي العراقي، يجعل من تحقيق هذا الحلم أمرا في غاية الصعوبة، أو على الأقل ليس واردا في الوقت الحاضر، وهذا يعني أن هيمنة قوى الإسلام السياسي على المشهد في العراق سوف تستمر سنوات طويلة قادمة، وهذا يعني أيضا أن العراق لن ينجح في بناء دولة المواطنة الحقيقية في هذه السنوات الطويلة، والثمن سيدفعه المواطن العراقي دون غيره.

نقلاً عن صحيفة أخبار الخليج البحرينية

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button