في النظام الرئاسي يختار الرئيس وزراءه، ويغيرهم كما يشاء وإنْ لزمت موافقة الكونجرس على اختياراته في مناصب مهمة عديدة، ويُفترض أن الرئيس يختار أولئك الأشخاص المتفقين معه في الخطوط العامة لرؤيته والسياسات التي ينوي اتباعها، وبطبيعة الحال تحدث أحياناً اختلافات أو حتى خلافات تؤدي إلى تغيير الرئيس وزراءه، لكن هذا التغيير لا يحدث عادة إلا بعد تغيرات جوهرية تقتضيه أو أزمات طاحنة يفشل الوزراء في مواجهتها وهكذا، لكن الرئيس الأميركي الحالي امتاز عن جميع أسلافه بأسرع معدلات لتغيير مساعديه وأوسعها نطاقاً، وفي الأيام الماضية وحدها أُقيل وزير الخارجية واستقال مستشار ترامب الاقتصادي، وذكرت صحيفة «واشنطن بوست» في مطلع هذا الأسبوع أن ترامب قرر تغيير مستشاره للأمن القومي، واللافت أن هذه التغييرات تدور حول ملفات فائقة الأهمية بالنسبة للسياسة الأميركية اختلف فيها الرئيس مع رجاله، فإذا كان ما قيل صحيحاً حول أنه اختلف مع وزير خارجيته السابق حول ملفات بأهمية ملف كوريا الشمالية النووي، وكذلك الاتفاق النووي الإيراني، والقضية الفلسطينية وبالذات اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل والأزمة القطرية، وأنه اختلف مع مستشاره الاقتصادي حول فرض رسوم جمركية على الواردات الأميركية من الصلب والألمنيوم على نحو يمكن أن يشعل حرباً تجارية بين الولايات المتحدة من ناحية، وقوى دولية مهمة كالاتحاد الأوروبي والصين من ناحية أخرى، وأن وجهات نظر الرئيس بشأن موضوع التدخل الروسي في الانتخابات تختلف عن وجهات نظر مستشاره لشؤون الأمن القومي، فما الذي يبقى من ملفات السياسة الخارجية الأميركية المهمة دون خلاف؟
هذه الظاهرة المتمثلة في معدل التغيير فائق السرعة في المناصب الرئيسية في إدارة ترامب تؤدي إلى نتائج مقلقة بالتأكيد، إذ يجب أن نتذكر أن الولايات المتحدة دولة عظمى، بل هي على نحو أكثر دقة الدولة الأقوى في عالم اليوم حتى الآن، وقد تفقد مكانتها هذه بعد عقدٍ أو ربع قرنٍ أو أكثر أو أقل، لكنها تبقى فاعلاً مؤثراً رئيسياً في الشؤون الدولية يمكن أن تترتب على سياساته الخاطئة نتائج خطيرة، وقد رأينا تداعيات الغزو الأميركي للعراق لا عليه وحده، وإنما على الوطن العربي عموماً. ويعود بعض من أخطر الظواهر التي ألمت بنا بعد هذا الغزو إلى السياسات الخاطئة لإدارة العراق في أعقابه، فاستُخدم المتغير الطائفي في تفتيت العراق وغيره من بلدان عربية عاشت قروناً في سلام في ظل التركيبة الطائفية ذاتها، وانتشر النفوذ الإيراني في العراق وغيره، وبزغت تنظيمات إرهابية شديدة التوحش كـ«داعش» وهكذا، ولذا فإن من مصلحتنا دون جدال أن تتبع أي إدارة أميركية سياسات رشيدة ومستقرة، لكن الخطورة الآن أن ثمة احتمالاً في أن تكون المشكلة كامنة في رؤى الرئيس الأميركي ذاته، بمعنى أنه يمتلك رؤية للولايات المتحدة وللعالم يريد أن يضعها موضع التطبيق بغض النظر عن أي اعتبار آخر، وليس هذا غريباً ولا مرفوضاً في حد ذاته، بل على العكس فإن بعضاً من أفضل القادة في العالم لم يكونوا كذلك إلا لامتلاكهم رؤية ثاقبة طموحة لمستقبل بلادهم، لكن مشكلة الرئيس الأميركي الحالي كما نعلم أنه أتى إلى قمة النظام الأميركي دون خبرة سياسية سابقة، ولو قارن المرء تكوينه السياسي وخبراته العملية بالرئيس الأسبق جورج بوش الأب لأُصيب بالهلع، فقد حارب الأخير في الحرب العالمية الثانية وكان عضواً بالكونجرس وسفيراً لبلاده في الصين ومندوباً دائماً لها في الأمم المتحدة، ومديراً للمخابرات المركزية الأميركية ونائباً للرئيس لثماني سنوات، أي أنه جمع الخبرة من أطرافها كافة، ولذلك كانت اللافتات المؤيدة لترشيحه رئيساً تصفه بأنه رئيس «لا حاجة بنا لتدريبه»، لكن كثيرين ينتابهم شك عميق في أن تكون لترامب بسبب انعدام خبرته رؤية ناضجة متكاملة، والأكثر إثارة للقلق أنه يُفترض فيه أن يكون ممثلاً لليمين المتشدد، لكننا نجد بعضاً من أشد المعارضين له ينتمون لهذا التيار، وهو ما يدعونا لقلق عظيم، خاصة أن ثمة تقاطعات لا فكاك منها بين بعض من أهم قضايانا وبين السياسة الأميركية، كما شاهدنا في اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل واعتزامه نقل السفارة الأميركية إلى القدس مع ذكرى تأسيس إسرائيل فما العمل؟