نون والقلم

الاقتصاد السياسي للفساد .. التجربة المصرية

لم يكن رئيس الوزراء المصري الأسبق الدكتورعبد العزيز حجازي مستعداً أن يصدق أو أن يتقبل ما استمع إليه عن عدد المليونيرات في مصر بعد عام واحد من الانفتاح الاقتصادي.

أخبار ذات صلة

في منتصف السبعينات سألته أثناء حوار مفتوح مع طلاب الصحافة بكلية الإعلام عن مدى صحة ما نشرته مجلة «روزاليوسف» عن أن عددهم وصل إلى الخمسين. بشيء من الغضب نفى هذا الرقم وتحدى أن تثبت المجلة صحته.
بدا غضبه مثيراً إلى أبعد حد. فهو رجل هادئ الطباع لا يميل إلى المشاحنات الكلامية، يحفظ الأرقام ويدقق فيها كأستاذ مالية عامة قبل أن يكون مسؤولاً في الدولة.
بعد نشر حوار الدكتور «حجازي» في صحيفة «صوت الجامعة» التي كان يشرف عليها الأستاذ جلال الدين الحمامصي ردت «روز اليوسف» بالأدلة والوثائق التي توافرت عند محررها الاقتصادي محمود المراغي. رقم الخمسين مليونيراً يبدو اليوم مثيراً للسخرية، لكنه في وقته كان صادماً بطريقة يصعب تصورها. مصر كانت مختلفة في كل شيء. لم تكن مستعدة أن تستوعب النشأة المفاجئة لطبقة طفيلية لا أحد يعرف من أين حصدت أموالها ولا في أي نشاط إنتاجي تعمل. بقرار واحد ابتدأ عصر جديد، هو عصر التوكيلات الأجنبية. وزعت الحصص والأنصبة على أسماء دون غيرها، وفق حسابات لا علاقة لها بأي قواعد اقتصادية متعارف عليها. في غياب القواعد أطل الفساد قبل أن يتمركز ويتوطن. هناك فارق بين الفساد الشخصي والفساد المنهجي.

الأول: انحراف بالسلطة والنفوذ يقع في كل مكان وتحت كل النظم.
والثاني: تغول بالانحراف في بنية السياسات والتشريعات.

في توطن الفساد أزمة دولة تستنزف طاقتها ومواردها وأي آمال لها في المستقبل. الفساد قرين اقتصاد المحاسيب.
يقال عادة «السمكة تفسد من رأسها». وهو تعبير ينطبق على مصر أكثر من غيرها. الفساد في السياسات قبل الرجال.

في لحظة البداية بدا أن اللعبة قد صممت لأهداف سياسية قبل أن تكون اقتصادية. القصة كلها تحتاج إلى مراجعة وقراءة في الأوراق القديمة.
عندما تكون الإجابة واضحة عن الكيفية التي نشأت بها تلك الطبقة الطفيلية فإن الوصول إلى جذور الفساد يصبح ممكناً. هذا ضروري في أي حرب حقيقية مع الفساد. أن تعرف بالضبط من تحارب وكيف توحش من مرحلة إلى أخرى على مدى أربعين سنة متصلة نهبت فيها الموارد العامة وتعطلت القدرات الكامنة. القضية ليست في طبيعة النظام الاقتصادي بقدر ما هي في غياب أي قواعد حديثة. في النشأة المشوهة للطبقة الجديدة ما يسيء إلى أي نظم رأسمالية حديثة.

لم يكن صاحب نوبل للآداب «نجيب محفوظ» اشتراكياً ولا ناصرياً عندما أفزعته ظواهر الانفتاح الاقتصادي في روايته «أهل القمة» التي تحولت إلى شريط سينمائي. أعمال أدبية وسينمائية أخرى توسعت في الخط نفسه وربطت بين الانفتاح الاقتصادي وإهدار النصر العسكري في أكتوبر/تشرين الأول. الذين عبروا على الجسور لم يكونوا هم الذين جنوا الثمار. ذهبت الجوائز كلها إلى من أطلق عليهم وقتها «القطط السمان». عام (١٩٧٤) نقطة تحول مفصلية في التاريخ المصري، فقد طُوي نظام بتوجهاته الاجتماعية والاستراتيجية وبدأ نظام جديد يناهضها. في انقلاب السياسات جرى السعي لبناء طبقة تدعم بالمال والنفوذ سلطة حكم توشك أن تطوي صفحة ثورة يوليو. هكذا اصطنعت الطبقة الجديدة. منذ البداية بدت العيون مصوبة على وراثة القطاع العام وقلاعه الصناعية لا بناء وحدات إنتاجية جديدة يديرها القطاع الخاص. ترددت نظريات تقول: إن إزاحة القطاع العام من ضرورات تنشيط القطاع الخاص. وقد وفرت الأساس المنهجي للسياسات التي مهدت لتمركز الفساد في بنية الدولة ومؤسساتها.
أمام صدمة التحولات تصاعدت حدة المواجهات ووصلت ذروتها في انتفاضة الخبز عام (١٩٧٧). كانت تلك نقطة تحول أخرى في الاقتصاد السياسي للفساد في مصر. هرب الرئيس «أنور السادات» إلى الأمام وذهب إلى الكنيست في العام نفسه. توسعت عمليات بيع القطاع العام مع إعلان القطيعة مع العالم العربي والصلح مع «إسرائيل». ولم تكن هذه مصادفة.
ما هو استراتيجي تداخل على نحو وثيق مع ما هو اقتصادي. تذكر أن اللعبة بدأت بالتوكيلات الأجنبية.

في عهد خلفه حسني مبارك استطردت ذات السياسات وتوسعت عمليات خصخصة القطاع العام وبيعت وحداته ب«تراب الفلوس»، على ما كان يصرخ منتقدوها بلا كلل. في السنوات العشر الأخيرة من حكم «مبارك» انتقلت مصر من الفساد المنهجي إلى الفساد المؤسسي. كان صعود مشروع توريث الحكم من الأب إلى ابنه تعبيراً عن زواج معلن بين السلطة والثروة.

لم يكن هناك بد من الانفجار غير أن السياسات الاقتصادية لم تختلف بعد يناير/كانون الثاني. حكم جماعة الإخوان المسلمين اعتمد النهج ذاته الذي كان يتبناه «مبارك» ولجنة سياسات نجله. كان التكويش على السلطة والتكالب على الثروة من أسباب الانهيار السريع لحكم الجماعة. المعنى في ذلك كله أن الاقتصاد السياسي للفساد قوّض كل النظم التي تعاقبت خلال أربعين سنة. الفساد ينخر في صلب الشرعية وينزع أي أحقية سياسية في الحكم. الحرب ضد الفساد أخطر تحديات النظام الجديد، مسألة مصير بالمعنى الحرفي. النظام الجديد يحتاج إلى تثبيت أوتاده، وهذه تستدعي خطة لا تتوافر مقوماتها حتى الآن.
مكافحة الفساد تعني بالضبط تفكيك نظام «مبارك» الذي سقط رأسه دون أن يلحقه جوهره، أو فصم العلاقة ما بين الثروة والسلطة. الكلام كله يحتاج الى مراجعة في بنية التشريعات التي تحرض على الفساد وتحميه. القبض على وزير الزراعة بتهمة الفساد إشارة لها قيمتها، لكنها لا تكفي وحدها لإعلان الحرب.
شهدت مصر من قبل قضايا فساد مماثلة في وزارة الزراعة ووزارات أخرى قيل في وصفها إنها كبرى، غير أن البيئة العامة لم تختلف ومستوى الفساد لم يتراجع. لماذا يستوطن الفساد وزارة الزراعة أكثر من غيرها؟ لأنه لا توجد ضمانات لحقوق الدولة في أراضيها ولا أي قواعد للنزاهة والشفافية. كما يقول المصريون «المال السائب يعلم السرقة». إذا أردناها مواجهة حقيقية فلابد من نسف كل مقومات الاقتصاد السياسي للفساد من عند الجذور.

نقلا عن صحيفة الخليج

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى