رغم مرور قرابة القرنبن من الزمان على انتهاء الحرب العالمية الثانية التي أدت مواجهاتها “العسكرية” إلى فقد أرواح الملايين من البشر في بقاع مختلفة من الكرة الأرضية التي تأثرت بنيتها الجغرافية وخطوط طولها وعرضها في حدودها الجغرافية بتداعيات تلك الحرب وسابقتها الحرب العالمية الأولى أيضا، إلا أن أدبيات “الحروب” ما زالت كما يبدو مسيطرة على ذهنية البشر الحريصين على العيش في مناخات الحروب مهما اختلفت صياغاتها ومسوغاتها.
ويتضح الارتباط الفطري للذهنية البشرية بأدبيات الحروب من خلال ما بدا مؤخرا من نذر حرب “تجارية” عالمية تلوح علاماتها في الأفق في الوقت الحالي، بما يشير إلى أن تجارة الحروب قد لا تنتهي في حياة الناس، بل تتحول من صيغة إلى أخرى. فبعد أن كانت وحتى وقت قريب تتمثل في وجهها القبيح في صناعة وترويج الأسلحة النارية عبر اتباع مختلف فنون التسويق، سواء عبر الفتن، أو التحريض، أو التخويف أو غير ذلك، فقد أخذت الحروب الآن صيغة أخرى تتمثل في وجهها التجاري الذي يخشى أن تكون أسوأ تعقيداته الخوض في مواجهات عسكرية على المدى البعيد.
يبدو ذلك النذر بنشوب حرب تجارية عالمية من خلال عدد من الدلالات عكستها بعض القرارات السياسية ذات التأثير العالمي، والتحركات الدبلوماسية ذات الإشارات الواضحة في تصريحات بعض القائمين بها، فضلا عن العديد من التداعيات والكثير من الاتفاقيات ذات الصبغة التجارية التي شهدها العالم مؤخرا.
وفيما يتعلق بالقرارات التي يخشى من أن تلعب دورا مباشرا أو غير مباشر في إطلاق شرارة حرب تجارية عالمية، ما اتخذه الرئيس الأميركي ترامب من قرار يقضي بفرض رسوم على واردات بلاده من الصلب والألمنيوم، ما أثار حفيظة الدول الصناعية في أوروبا وآسيا، فسارع الاتحاد الأوروبي إلى التهديد على لسان نائب رئيس المفوضية الأوروبية بأن الاتحاد الأوروبي مستعد للرد واتخاذ إجراءات في مواجهة هذه الرسوم الحمائية، بينما حذرت الصين من حرب تجارية مع أميركا.
أما الزيارات الدبلوماسية وفي سياق الحديث عن الصين وأهميتها الاقتصادية، شهدت إفريقيا خلال الأسبوع الماضي بداية زيارة لوزير خارجيتها المقال تيلرسون لم يكتمل برنامجها وتم قطعها فجأة، وكان مقررا لها أن تشمل خمس دول هي: إثيوبيا وكينيا وتشاد وجيبوتي ونيجيريا، حيث كشف تيلرسون عن أبرز أهدافها التجارية من خلال تصريح أدلى به في إثيوبيا، محذرا القادة الأفارقة من “وضع سيادة بلدانهم رهنا للصين مقابل الأموال”.
بهذا التصريح، وعلى ضوء ما حققته الصين من نجاحات اقتصادية في مشاركة الدول الإفريقية في عملياتها التنموية ـ رغم أنها أقل مما تتطلع إليه الشعوب الإفريقية من نمو وازدهار ـ تبدو نذر الحرب التجارية العالمية بداية بين أميركا والصين، إلا أن صورتها لم تكتمل حتى الآن ربما بسبب بعض المتغيرات السياسية الأخيرة في واشنطن، لكن يتوقع استمرارها، وذلك باعتبار أن السياسة الخارجية الأميركية عادة تقوم على أسس ذات رؤيا استراتيجية بعيدة المدى بغض النظر عن اختلاف وتغيير قادتها ورؤسائها.
أما الاتفاقيات التي يمكن الأخذ بها كأحد مؤشرات الحرب التجارية العالمية، فهي ما أقدمت عليه إحدى عشرة دولة آسيوية وغير آسيوية بينها اليابان وكندا مؤخرا على توقيع اتفاقية للتجارة في آسيا والمحيط الهادي بدون أن تكون الولايات المتحدة الأميركية عضوا في هذه الاتفاقية، وهو ما اعتبره بعض المراقبين الاقتصاديين بأنه أحد ردود الأفعال الناتجة عن قرار الرئيس الأميركي ترامب بشأن فرض رسوم على واردات بلاده من الصلب والألمنيوم. ولكن كيفما كان التفسير، فإن مجرد الإقدام على عقد اتفاق مثل هذا في منطقة المحيط الهادي بدون أميركا التي تعتبر قوة اقتصادية يصعب تجاوز أهميتها في تلك المنطقة، فإن الأمر قد يحمل في أيامه المقبلة الكثير من التداعيات والانعكاسات على حركة التجارة في تلك المنطقة وما جاورها.
وعليه، يبقى الأمل معقودا في أن يحرص العالم أجمع على تجنيب التجارة العالمية أثار مطبات المصالح السياسية الفردية للدول ومجموعات المصالح، وذلك بوضع انسيابية التجارة وحرية السوق وعدم العودة إلى أنظمة الحمائية كمحددات أساسية لضمان تدفقات التجارة العالمية حتى لا تجد الشعوب نفسها أمام حرب تجارية عالمية شاملة.
38 2 minutes read