إذا كان تنظيم داعش هو اختصار «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، فهذه الدولة سرعان ما سقطت وتضاءل عدد مجندي التنظيم، وتدهورت حالته المالية، وتوقفت أغلب مجلاته الإلكترونية التي ساهمت عالمياً بجذب الأتباع..الخ. فهل انتهى هذا التنظيم أم لا زال يعمل؟ وما الذي يعمله الآن ليبقى؟
رغم كل هزائم داعش، فقد خلص الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره الأخير عن التهديد الذي يشكله إلى أنه «لا يزال يشكل تهديداً كبيراً ومتنامياً في جميع أنحاء العالم» (ماثيو ليفيت، معهد واشنطن). يذكر آخر تقرير لمجلس الأمن بشأن داعش وتنظيم القاعدة وما يرتبط بهما من أفراد وجماعات ومؤسسات وكيانات، أن داعش لا يزال يشكل تهديداً عالمياً كما شهدنا هجماته الإرهابية في أوروبا وفي جنوب شرق آسيا كالفلبين، وما زال التنظيم الأم في العراق وسوريا يتكيف مع استمرار الضغط العسكري المفروض عليه.
إذا كان الأمر كذلك، فما هي التكتيكات التي يتبعها داعش بعد انهيار دولته لكي يبقى عالمياً كتنظيم القاعدة؟ يمكن إجمال أهم تكتيكاته في أربع: إرسال الأموال، تحفيز الهجمات الفردية المستقلة، التحالف من تنظيمات إرهابية أخرى، تهيئة بعض العائدين لتنفيذ هجمات. سنوجز هنا لكل واحدة منها بالاستناد على تقارير الأمم المتحدة، ونلخص للنتيجة المتوقعة لداعش.
لا يزال التنظيم الأم (في العراق وسوريا) قادراً على إرسال بعض الأموال خارج منطقة النزاع إلى مؤيديه. فقبل هزيمته الأخيرة أرسلت قيادة التنظيم أموالاً من مصادره الهائلة آنذاك خارج مناطقه تحضيراً لهزيمته العسكرية. ويجري حالياً تقسيم الأموال إلى مبالغ صغيرة عبر نظام «الحوالة»، واستخدام مقدمي خدمات توصيل المبالغ النقدية المحترفين الذين يتلقون أجراً ويجري اختيارهم بعناية على أساس جنسيتهم وقدرتهم على السفر إلى بلدان محددة، مما يجعل اكتشافها أكثر صعوبة. ويستفيد التنظيم من أعمال مشروعة يستخدمها كواجهة، وكذلك من أفراد «نظيفين» ظاهرياً، قادرين على التعامل عبر النظام المالي الرسمي.
بيد أن هذه الطرق في نقل الأموال تم قطع العديد منها فضلاً عن تقلص الموارد المالية لداعش، لذا أخذ التنظيم يحث المنتسبين إليه على الاعتماد على مواردهم الذاتية مالياً. لكن هؤلاء سيعانون من ضعف التمويل، لذا يأتي التكتيك الآخر وهو التحفيز على الهجمات المستقلة.
فوض داعش مسؤولية صنع القرار إلى مستويات أدنى للقادة المحليين من التنظيم أو الأعضاء أو المتعاطفين مع التنظيم لشن الهجمات الخارجة عن مناطق نفوذه. كما أنه تحوّل إلى الاتصالات المشفرة ووسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع أتباعه والجماعات المرتبطة به. ووفقاً لتقرير مجلس الأمن المذكور، «يتخذ داعش حالياً هيئة شبكة عالمية تتسم بتراتبية أفقية وسيطرة عملياتية أقل على الجماعات المرتبطة به». أي أن القرار صار لمجموعات صغيرة أو لأفراد لتنفيذ الهجمات، بدلاً من التراتبية الرأسية التي تُوجه من القيادة العليا لداعش.
ومن هنا سيضطر داعش للتحالف التكتيكي مع تنظيمات إرهابية أخرى وحتى مع تنظيم القاعدة رغم استمرار التنافس الاستراتيجي بينهما، فالتغير الحاد في الصراع والسيطرة على المواقع يضطر المقاتلين على الأرض بالتنقل بين مختلف الجماعات ذات الإيديولوجية الواحدة والتكتيك المختلف. وحسب تقرير مجلس الأمن، بات أعضاء في تنظيمي داعش والقاعدة مستعدين لدعم هجمات بعضهم البعض، ما يدل على وجود تقارب بين التنظيمين قد يتزايد مع الوقت. ففي غرب أفريقيا، شكل تنظيم القاعدة إلى جانب بعض الجماعات المنشقة عنه، تحالفاً جديداً يسمى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين.
حسب التقرير، يهدف التنظيم إلى زرع أفراد في جميع أنحاء العالم، فيبدو أن الأفراد الذين يغادرون منطقة النزاع قد تلقوا إحاطة مفصلة عن كيفية التصرف عند مواجهة السلطات الحكومية لتجنب الذهاب إلى بلدان يمكن فيها إلقاء القبض عليهم. أما العائدون، فيندرجون عموماً ضمن ثلاث فئات عريضة. الفئة الأولى العائدين الذين خاب أملهم في داعش كجماعة وفي الإرهاب كإيديولوجية، ولذلك يمكن إبعادهم عن التطرف وإعادة إدماجهم في مجتمعاتهم. الفئة الثانية، وهي أصغر عدداً بكثير، هم الذين يعودون لهدف محدد هو تنفيذ هجمات إرهابية، وبالتالي يشكلون خطراً كبيرا على الدول. أما الفئة الثالثة، فهي الأصعب في التوصيف، لأنها تشمل أفراداً قد قطعوا صلاتهم مع داعش بعد أن خيب آمالهم كتنظيم، غير أنهم يبقون على تطرفهم، وهم على استعداد للانضمام لجماعة إرهابية أخرى إذا أتيحت لهم الفرصة. ويمثل هؤلاء تحدياً خاصاً لأنهم يشكلون تهديداً دون دلائل ملموسة على وجود صلات حالية لهم بالجماعات الإرهابية.
الخلاصة، من وجهة نظري، هي أن تكتيكات داعش هي مجرد تأخير لاندثاره، وهي الآن تؤدي إلى تبعثره، رغم أن أعماله لا تزال تشكل تهديداً لكنها تتقلص مع ازدياد الضغوط عليه عسكرياً وماليا. إلا أنه ينبغي الحذر، فبعض العائدين من داعش يشكلون الخطر الأكبر وقد يكونون البذرة التي قد تنمو من جديد لتكوين كارثة أخرى إذا استمرت البيئة الحاضنة له (فلتان أمني، وسوء الظروف المعيشية) رغم تحسن الوضع في العراق.. ولنتذكر عندما انحسرت قوة تنظيم القاعدة أتى داعش أشد وطأة لأن الأوضاع ازدادت سوءا.