نون والقلم

عبدالمنعم مصطفى يكتب: سوريا رهن الاختفاء القسري

الأبدي هو الذي لا نهاية له..

الأزلي هو الذي لا بداية له..

الأمدي هو ما بين البداية والنهاية..

السرمدي هو ما لا بداية له ولا نهاية..

من أنت بين هؤلاء؟!..

لا يمكنك قطعاً أن تكون أبدياً بلا نهاية، ولا يمكنك أيضاً أن تكون أزلياً بلا بداية، ولا يمكنك بالطبع أن تكون سرمدياً بلا بداية ولا نهاية.. أنت إذن أمدي، تقع حياتك المادية بين شهقة ميلاد أولى، وزفرة موت أخيرة.

بين الشهقة الأولى والزفرة الأخيرة يُولد تاريخ، جل وقائعه شهقات أولى وزفرات أخيرة.

علّمونا في كتب التاريخ، أن الأيام دول، رأينا إمبراطوريات تنهض وتنمو وتكبر وتتسع، حتى تسيطر على مناطق جغرافية مختلفة، وعلى شعوب متباينة الأصول والأعراق والثقافات. لكننا رأينا هذه الإمبراطوريات تضعف وتشحب وتنهزم وتنسحق وتتلاشى.

بالإبداع البشري لأدوات القوة، راحت الجغرافيا تتمدد، والتاريخ يتعمق، لكن تمدد الجغرافيا وتعمُّق التاريخ ظل دائماً حبيس المدى بين شهيق ميلاد الحضارة وزفير موتها.

في نصف القرن الأخير، تطورت أدوات القوة، ومعها كثير من مفاهيم السيطرة، حتى أعلن الأمريكيون، في لحظة استفراد نادرة بقمة النظام الدولي، عزمهم على السيطرة على قرنٍ كامل، قالوا إنه يجب أن يكون أمريكياً.

أرادت أمريكا السيطرة على العالم لمئة عام كاملة، كان اعتقادها وقتها، أن مَن يُسيطر على المئة عام الأولى سوف يسيطر بالتداعي المنطقي، على مئات أخرى مقبلة من السنين، لكنهم اكتشفوا بعد ربع قرن فقط، استحالة تحقيق هذا الهدف، وتحوَّلوا من أمة تسعى لسيطرة مطلقة على كوكب الأرض، إلى أمة تتطلع إلى تقليص خسائرها، ومحاولة حماية ما تحت يدها من مناطق نفوذ وتأثير.

في السنوات العشر الأخيرة، راحت أمريكا بواقعية تامة، تدير مشهد هبوط آمن لإمبراطورية عملاقة، رأينا وسمعنا الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، يتحدث في الأزمة التي صاحبت الاضطرابات في ليبيا، عما أسماه (القيادة من مقعد خلفي)، ثم رأيناه في الأزمة السورية يتحدث عما أسماه (الشراكة الأمامية) أي القيادة من مقعد بجوار السائق، وبوصول ترامب إلى البيت الأبيض، بدا وكأن تغييراً يجري، لكن جوهر التغيير ربما اعترى المسميات دون أن يُبدِّل الواقع، فثمة إدارة منتظمة لمشهد تراجع إمبراطوري لأمة أدركت استحالة السيطرة على التاريخ، واختارت بواقعية أن تظل صاحبة النصيب الأوفر من القدرة على التأثير في حركته.

المشهد في سوريا عنوان لهذه القصة برمتها، البعض هناك يحاول إيقاظ إمبراطورية فارس من رقدة العدم، والبعض الآخر يحاول إعطاء قبلة الحياة للإمبراطورية العثمانية، قبل حلول الذكرى المئوية الأولى لسقوطها الأخير، فيما يُوقظ الروس أحلام القياصرة بوجود دائم في المياه الدافئة، بينما يتحدث أمريكيون عن سيطرة دائمة على 30% من أراضي سوريا.

كل من جاءوا إلى سوريا يُخطِّطون لوجود أبدي.. روسيا استطاعت الحصول على قاعدتين بحرية في طرطوس وجوية في حميميم، وأردوغان يتطلع عبر عفرين إلى ارتباط دائم في حلب وإدلب، وإيران موجودة بالفعل في مناطق مختلفة من سوريا، ينظم بعض رجالها المرور فيها، ويقيمون الحواجز الأمنية على الطرق السريعة بها، بينما الأمريكيون يتحدَّثون أيضاً عن وجود دائم فوق 30% على الأقل من تراب سوريا.

لدى إسرائيل أيضاً وجود دائم في الجولان السوري المحتل منذ أكثر من خمسين عاماً.

الوجود الدائم لهذه القوى فوق التراب السوري يعني، ببساطة، اختفاء قسرياً دائماً لخارطة سوريا الموحدة، جرى التمهيد نظرياً له بالحديث عما يسمونه (سوريا المفيدة)، وكأنما خارطة سوريا قبل التقسيم كانت خارطة سوريا الضارة، ولم يقل لنا أصحاب طرح سوريا المفيدة، عن من هو المستفيد من سوريا المفيدة، أو بعبارةٍ أخرى (المفيدة لمن؟)!

لا توجد خرائط أبدية، ولا أزلية، ولا سرمدية.. ديناميكية التاريخ لا تسمح لها بذلك، لكن لدى الشعوب بصفة عامة اعتقاد راسخ بالخلود، فهم باقون والإمبراطوريات التي تعاقبت عليهم زائلة.

مجرد البقاء ليس صنواً للخلود، الأول تكفله قوانين الطبيعة حتى للفطريات والكائنات الدقيقة، والثاني يصنعه امتلاك أدوات القوة، وكفاءة الاستخدام الحصيف لها.

نقلا عن صحيفة المدينة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى