في قمة الحكومات التي أنهت أعمالها في دبي أول من أمس، عاد جيم يونغ كيم، رئيس البنك الدولي، ليعزف لحناً كان قد بدأه في قمة السنة الماضية، لأنه فيما يبدو قد أحس بأن لحن عام مضى لا يزال في حاجة إلى توزيع جديد بلغة الموسيقيين!
ففي قمة فبراير (شباط) 2017، كان قد وقف على منصتها مُعلناً أن هذه المنطقة من العالم – يقصد منطقتنا العربية – تحظى بإنفاق كبير على التعليم من جانب الحكومات فيها، وأن هناك مفارقة لافتة رغم هذا الإنفاق الكبير عليه، بالمقارنة بما يجري إنفاقه في مناطق أخرى من العالم على الملف نفسه!
والمفارقة هي أن الحصيلة من وراء الإنفاق دون المستوى المطلوب، ودون الطموح المرجو، ودون الأمل المنتظر، بما يعني شيئين اثنين؛ أولهما أن الإنفاق على يد أي حكومة، على التعليم أو غير التعليم، ليس هدفاً في حد ذاته، ولا يجوز أن يكون، ولكنه إنفاق لتحقيق نتيجة محددة، ولإنجاز غرض مُعين. فإذا لم تتحقق النتيجة، وإذا لم يتجسد الغرض على الأرض في النهاية، فما أضيع الإنفاق!
والشيء الثاني أن الأمر ما دام هكذا، فلا بد أن الغالبية من حكومات المنطقة في أشد الحاجة إلى مراجعة كل قرش تنفقه على تعليم أبنائها، ليس من أجل تقليص الإنفاق طبعاً، ولا من أجل كفّ يدها عما تنفقه، وإنما من أجل ضبط أدائها وهي تنفق!
وإذا أردنا ترجمة معنى هذه الفقرة الأخيرة في عبارة واضحة، ومختصرة، وذاهبة إلى المعنى من أقصر طريق، قلنا العبارة التي يعتمدها الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، في عمله منذ وقت مبكر؛ إنها: كفاءة الإنفاق!
وكفاءة الإنفاق ليست فقط في حماية المال العام من السرقة، ولا في تحصينه من السطو عليه، ولا في الذود عنه ضد كل طامع فيه بغير وجه حق، ولكنها في إنفاقه كله، لا بعضه، في مكانه.. وفي مكانه بالضبط، وإلا صار مالاً مُهدراً، رغم إنفاقه بطريق مشروع!
والحديث هنا عن غالبية الحكومات في المنطقة، وليس عنها كلها، معناه أن هناك حكومات عربية قليلة أدركت منذ البداية ما عناه رئيس البنك الدولي في حديثه، وقبل أن يعلنه، وقررت بينها وبين نفسها، ثم بينها وبين شعبها، أنها جاءت إلى مقاعد الحكم لتحقيق الصالح العام للشعب، وأن هذا الصالح العام لن يتحقق لمجرد أنها تريده، أو تفكر فيه، أو ترغب في أن تراه، ولكنه سيتحقق لأنها تعمل في سبيله، وتسعى إليه، وتخطط له، كما يقول الكتاب الذي يعرفه العالم!
والكتاب المقصود كتاب يشبه «الماجنا كارتا» البريطانية التي جرى الاتفاق عليها، أو التوافق حولها، في عام 1215م، بين جماعة الإنجليز الأوائل.. إنها مجموعة من التقاليد غير المكتوبة، والمرعية في الوقت ذاته، وقد اكتسبت مصداقيتها، وقيمتها، ووزنها، من كونها أقرب إلى الضمير الحاكم للأداء العام على الأرض البريطانية، منها إلى أي شيء آخر!
والكتاب في قصة الإنفاق العام يقول إن إنفاق المال، خصوصاً على التعليم، لن يكون مجدياً إلا إذا كان لدى مَنْ ينفقه هذا القدر من الالتزام الذي تمارسه «الماجنا كارتا» على كل مؤمن بها، فهي ليست مخطوطة على ورقة في جيبه، ولا هي مُدونة في لوح في بيته، ولكنها منقوشة في وجدانه، ومحمولة في عقله، وكامنة في خلايا جسده، وهي لهذا كله متوارثة تلقائياً من جيل إلى جيل، لأنها من طول الممارسة على مدى قرون من الزمان مضت، أصبحت وكأنها جينات تنتقل من الأب إلى الابن دون عناء!
فما أحوج إنفاق حكوماتنا، في الغالبية منها، إلى أن يتحلى بروح «الماجنا كارتا».. الروح التي تجعله يتقيد بتقاليد مستقرة يراعيها كل مَنْ يتولاه!
وعندما عاد جيم يونغ كيم هذا العام ليكمل اللحن الذي كان قد عزفه على مسمع من ضيوف القمة قبل 12 شهراً، كان لا بد أن يُنوه إلى أن حكومة دولة الإمارات العربية تتطلع إلى الإنسان على أرضها بوصفه رأسمالها الحقيقي والباقي، وأنها تتعامل معه على أساس أنه ثروة.. هذا معيار أول!
والإنسان لن يمثل ثروة لدى بلده إلا إذا كان قد تلقى تعليماً جيداً.. وهذا معيار آخر من معايير النظر إليه، ليظل قيمة تضيف إلى أرضه، لا قيمة تخصم منها!
والبديهي أن الصحة قرينة التعليم، لأن الشخص الذي يعيش في ظروف صحية غير مساعدة لن يستطيع كسب عيشه، ولا إتقان عمله، ولا إسعاف نفسه، فضلاً عن أن يسعف بلده، ولو توافر له تعليمه الجيد!.. وهذا بدوره معيار ثالث في مقام معايير النظر إلى الإنسان!
ولا ترغب إمارة دبي منذ أن أطلقت قمة بهذا الاسم قبل ست سنوات، برعاية الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس الدولة حاكم الإمارة، في أن تستأثر بفلسفة قمتها لنفسها، ولذلك تدعو حكومات العالم في كل دورة جديدة من دورات القمة للإجابة عن هذا السؤال: كيف يمكن أن يكون الإنسان، بوصفه إنساناً فقط، هدفاً تعمل عليه حكومته طول السنة؟!
سألتُ محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء المسؤول عن أعمال القمة: في الإمارات وزارة للسعادة وجودة الحياة، ووزيرة تتولاها، هي عهود الرومي.. فما المعنى؟! قال: هناك أكثر من معنى، ولكن قد يكون المعنى الأهم أن الإنسان السعيد لا يفجر نفسه في تجمعات الناس!
وكانت هذه في نظري فلسفة مُضافة!