السياسات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة، وهل ينتظر زارع الشوك أن يجني العنب؟ إنما الأمور بمقدماتها، وفي الموضوع السوري بالذات، كان تعامل المجتمع الدولي، خصوصاً الغرب، منذ البدايات المبكرة، التي كان يمكن أن تبني وتؤسس، يتأرجح بين الغفلة والغموض وعدم الجدية، ما أدى إلى وصول القضية اليوم إلى حزمة مشكلات تصلح كل واحدة منها لتجسد المتاهة بالمعنى العميق، وها هو الغرب نفسه يجزئ الأزمة السورية وينظر إليها، بعد ذلك التفتيت المخل، باعتبارها أجزاء ونتفا متفرقة لا علاقة لبعضها مع البعض الآخر، فليس إلا الانطلاق من غير المنطقي ثم الاشتغال على غير المعقول أو المقبول.
كانت هنالك اتفاقات أولية أو مبدئية سرعان ما تلاشت أو تبخرت بفعل الاختلاف على الوسائل مع أن الغاية واحدة، أو بدت، في مبتدئها، واحدة، والنتيجة أن الأزمة الكبرى بعد النسيان أو التجاوز المتعمد لأسبابها وجذورها تتشظى، بسبب من ذلك وبسبب من استعدادها وقابليتها، في حد ذاتها أو في علاقاتها المتشابكة والمرتبكة، تتحول إلى أزمات وتفرز أزمات، وكما رأيناها «تقزم» في مرحلة من المراحل، لتكون أزمة سلاح كيماوي، ها هي اليوم تختزل أو تكاد في «أزمة لاجئين».
لا تهوينا من مسألة اللاجئين السوريين بقدر ما هو السعي إلى احترام الشعب السوري حين توضع قضيته في مكانها وحجمها الصحيحين بعيداً عن أية مساومة أو إسفاف، وبعيداً خصوصاً عن هذه الانتهازية الواضحة والبغيضة التي بدأت تتعامل عبرها أو من خلاها دول غربية مع مشكلة اللاجئين، وإذا كنّا إزاء الهجمة الظالمة من تلك الدول على دول الخليج، ودولة الإمارات مشمولة بالتأكيد، فإنه لابد من توضيحات نحسبها ضرورية، نحو بيان الصورة الحقيقية للموضوع، منطلقين من المعلومات والوقائع الصادقة، ومستندين إلى الأرقام الصحيحة المستمدة من سجلات الواقع: لقد استقبلت دولة الإمارات منذ العام 2011 أي بداية الأزمة السورية أكثر من مئة ألف سوري ومنحتهم تصاريح الإقامة والعمل، ليصبح عدد السوريين المقيمين في الدولة حوالي 250 ألفاً بعد أن كانوا في سنوات ما قبل الأزمة حوالي 150 ألف مقيم سوري.
وقدمت الإمارات التي تفضل بقاء اللاجئين السوريين قريبين من بلادهم فالذين يبتعدون في ألمانيا وأوروبا لا يعودون، نحو معالجة أزمة اللاجئين ونجدة لمعاناة الشعب الشقيق، أكثر من 530 مليون دولار، وفي العام 2013 أنشأت الإمارات بالتعاون مع ألمانيا والولايات المتحدة صندوق إعادة إعمار سوريا،الذي كان له نشاطه في المناطق غير الخاضعة للنظام، وتعاطفت الإمارات، قيادة وحكومة وشعباً، مع الشعب السوري الشقيق إلى أقصى درجات التعاطف، وترجمت المؤسسات الوطنية ذلك إلى برامج مدروسة ومحددة الأهداف من المساعدات الإنسانية والتنموية، وجسر المساعدات الذي تصنفه دولة الإمارات في صميم دورها وحضورها في الفعل الإقليمي والعالمي، مستمر بشكل مكثف منذ بداية المشكلة حتى الآن، وحتى صباح الغد، وهو الذي لم ينقطع في يوم من الأيام منذ فجر العلاقة، ومنذ عطاءات الآباء المؤسسين غير المحدودة، وفي طليعتهم القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وملفات صندوق أبوظبي للتنمية تشهد على ذلك، وعلى أن سوريا والشعب السوري كانا بعض شاغل مستيقظ دائماً لدى الشيخ زايد، باعتباره جزءاً أصيلاً وأساسياً في الخطة السياسية والاقتصادية لدولة الإمارات.
النهج ذاته تكرس وترسخ أكثر وأبعد في عهد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، وفي يناير/ كانون الثاني 2015 تعهدت دولة الإمارات بتقديم مئة مليون دولار إضافية لدعم اللاجئين السوريين، أنفق منها حتى الآن أربعة وأربعون مليوناً.
إلى ذلك، تشير الملفات الواقعية والمسجلة دوليا إلى أن الإمارات مولت وتمول مخيم «مريجيب الفهود» لتأمين حياة واحتياجات أكثر من 4000 لاجئ سوري، كما تبرعت بأكثر من 72 مليون دولار أمريكي في خلال العامين الماضيين لدعم مخيمات اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان والعراق وتركيا، ناهيك عن الجهود المتواصلة لوزارة التنمية والتعاون الدولي المنشأة خصيصا لمثل هذا الغرض، أو لهيئة الهلال الأحمر الإماراتية وغيرها من المؤسسات الإنسانية والخيرية في مد جسور المساعدات، خصوصاً الغذاء والدواء ومستلزمات المعيشة.
في التفاصيل، فتحت أبوابها للسوريين من كل الفئات والطوائف الإسلامية والعلوية والمسيحية، وكذلك من مختلف الطبقات الاجتماعية، وحيث أنه لايوجد نظام لجوء في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد تم استصدار تأشيرات وإقامات عمل في الإمارات، وها هم المقيمون السوريون، بمن فيهم المئة ألف الذين قدموا في ظل الأزمة السورية وما سمي ب«الربيع العربي» منذ العام 2011، يعملون في هذا المجتمع الذي رحب ويرحب بهم أحسن ترحيب، ولا يعيشون على هامش المجتمع كما يعيش الكثيرون في أقطار اللجوء.
إن دولة الإمارات لم تعلن هذه الحقائق والمعلومات والأرقام من قبل، حيث هي، قيادة وحكومة وشعباً، تنظر إلى إجراءاتها بشأن السوريين باعتبارها عملاً طبيعياً تلقائياً تمليه عليها شروط المسؤولية والضمير قبل أي شيء آخر، لكن كان من الضروري إعلان ذلك في ظل الحملة الشرسة ضد دول الخليج في بعض الأوساط الغربية التي حاولت وصف الوضع وكأن دول الخليج، ودولة الإمارات مشمولة بالتأكيد، لم تستقبل أي لاجئ سوري.
ما قامت به دولة الإمارات ينطلق من التزامها معالجة موضوع اللاجئين، لكن الإمارات ترى مع ذلك وقبله، أن معالجة موضوع اللاجئين تتطلب، بالضرورة الحتمية، معالجة أساس المشكلة المتمثل في البعد السياسي، وفي هذا البعد مسار سياسي محاصر ومحبط ومعطل، وفيما كانت الفرصة في مراحل متفرقة سانحة لانتقال السلطة، فالذي رأيناه تقاعس المجتمع الدولي في سوريا وعن سوريا، ورأينا كيف خلق ذلك أزمات كبيرة وخطرة: اللاجئون في أربعة أطراف الأرض، المقاتلون في الداخل السوري من أربعة أطراف الأرض، جماعات التكفير والتطرف والإرهاب، النازحون إلى الحدود ودول الجوار، وحالة الفوضى العارمة التي أصبحت تستعصي على الوصف فضلا عن التحليل.
مشكلة اللاجئين السوريين، في هذا السياق، مشكلة فرعية ناتجة عن أزمة كبرى سال فيها دم طاهر بريء، وعذبت فيها الطفولة وذبحت، وهدمت البيوت على رؤوس أصحابها بصواريخ الموت وبراميل الموت، وأصبحت فيها الجنازات طقساً يومياً اعتيادياً، بين مخالب الجوع والمرض والانتهاك المنظم لكرامة الإنسان.
وكان لا بد مما ليس منه بد: توضيحات ضرورية لبيان موقف دولة الإمارات من مشكلة اللاجئين السوريين، مع تأكيد موقف بلادنا المبدئي من الأزمة السورية كأساس للمشكلة، والتشديد على عدم صحة أو جواز تصوير الأزمة السورية وكأنها أزمة لاجئين مع عدم التهوين من هذه الأخيرة.
العودة إلى الينابيع فيها إجابة سؤال الظمأ، ولابد من التغيير في سوريا، نحو واقع جديد يشفي غليل شعب عربي كريم قدم كل هذا الثمن الباهظ.
نقلا عن صحيفة الخليج