د.عبد الله القفاري يكتب: عندما تدفع الشعوب الثمن مرتين!!
في هذا العصر المضطرب، وفي منطقة عربية لا تكاد ترى فيها مؤشرا على انفكاك قريب من ازمات وحروب وكوارث انسانية واقتصادية واجتماعية.. تصفعك أحيانا مقولات يرددها البعض دون فحص، ويطير بها آخر دون محاولة اكتشاف وبحث، وتصبح احياناً جزءاً من عقاب جماعي وجلداً للذات المفرغة من الاسئلة الكبرى.
ماذا يعني ان تكون عربياً في هذه الايام؟ وليت السؤال يتوقف عند الآخر البعيد -من الغرب أو الشرق- فهو لم يعد يراك سوى في أدنى درجات القوميات والبشر حتى ولو لم يصرح بهذا. إنما المؤلم ايضا أن تصبح هدفاً للعربي الآخر، حيث تصبح الهوية الوطنية متراساً لا يتورع بعض مدعيها أو متلبسيها عن إهانة أخيهم العربي وازدرائه.. بل ولا يتورع بعض المثقفين والكتاب عن جلد إخوتهم فقط لأنهم لم يعد يرونهم سوى العبء الاكبر على الحياة، ويتمنون لو انشقت الارض وابتلعتهم!!
هل نحن شعوب عربية قدرها ان تكون ضحية في كل الأوقات وعلى كل الألسنة وبين المتشدقين بوعي الإنسان، بينما هم لا يرونه سوى عبء عليهم وعلى ذواتهم التي تهيم بالآخر البعيد وتحتقر الآخر القريب؟!
هكذا تبدو بعض اللافتات، وهكذا تبدو بعض المقولات التي تصدمك بضحالة المخزون الإنساني وعدالة التقويم واكتشاف مصادر العلل، والتفكير بصوت يملك قدر من الشجاعة والاعتراف.
إن مصدر علل التخلف والجهل والتراجع والانحسار لم يكن يوماً دمغة تصبغ شعبا في ذاته، والبحث الموضوعي والمنصف يقتضي قراءة مسارات، وليس محاولة تعليق شماعة التراجع المذل اليوم على رقبة شعوب لا حول لها ولا قوة.. إنه الادعاء السهل المدفوع بالانطباعات والقراءات السطحية، وليست تلك التي تحفر في عمق ذلك الإشكال الإنساني الذي لم يكن وليد اليوم، ولكن كانت بذرته القاتلة تمضي في تربة الشعوب حتى أوردتها مأزق التوقف ثم التراجع ثم التخلف وربما وصلت بها إلى حافة الانهيار.
إن عقوداً من نشوء الدول العربية، بسكانها وجغرافيتها وحدودها التي نعرفها اليوم، وطبيعة النظم التي تمكنت من السلطة والشعب والمقدرات.. هي المسؤولة الأولى عما آل إليه المأزق الكبير لهذه الشعوب. وهذه الشعوب تدفع الثمن مرتين. مرة عندما استولت بعض النظم بالقوة على مصير الاوطان والشعوب التي ظلت تتغنى بها، وضبطت مسار الدولة والمجتمع ضمن حيز مصلحة النظام وعلاقاته وأهدافه ودوره وسيطرته.. ومرة أخرى عندما تصل لمرحلة التفكك والانهيار.
عندما حُرِّم مجال العمل العام على تلك الشعوب، وبدأ مسلسل السيطرة بالقمع والإلغاء، وبدت منافذ الحياة ضئيلة، وتم حبس كل حراك فاعل ومنتج.. وأخذت القامات تنسحب من المشهد العام شيئاً فشيئاً.. منذ تلك الساعة بدأت مأساة تلك الأوطان.
ماذا يمكن ان نتصور بعد عقود من هيمنة نظم عصبوية أمنية انقلابية قلقة تستبيح الحريات وتضع الشعوب في قفص التآمر وتمارس عليها الانهاك المستمر، أن يحدث؟ ماذا يحدث عندما تكون تلك النظم فاشلة في كل شيء عدا فرض السطوة المطلقة وحشر الشعوب في قفص الوطن المستباح؟
من الطبيعي ان تذوي تدريجاً ملكات العقول النابضة بالحياة. ويتزايد طلب الهجرة، ومن الطبيعي جدا ان تتحول طاقات كثيرة لخدمة مشروع الدولة الأمنية لا مشروع الدولة الوطنية. ومن الطبيعي ان يتهاوى الوعي الإنساني إلى مستوى تطلعات المكاسب الصغيرة والمناصب المربحة ومواطن الرضا والتمكين من اصحاب العلاقات والحضور في سلم القيادة.
ماذا كان علينا أن نتصور أن يكون الناتج.. سوى فشل كبير على مستوى التنمية، وبناء الانسان، وانتشار الفساد، وتفشي الاستبداد، واسترخاص لقوى الشرق والغرب واستقواء على الداخل المرهق بالبحث عن رغيف خبزه اليومي.
اذن لم يكن ثمة مشروع يبني شعباً قادراً على الإنتاج والإبداع ويرتقي في سلم الحياة والإنجاز، كان ثمة مشروع سيطرة وهيمنة مهما كلف الأمر ومهما تعاظمت وكبرت المخاطر.
هذا هو الثمن الأول الذي دفعته الشعوب العربية المغلوب على أمرها.. حيث أصبحت تعيد إنتاج دائها.. تضعضع القيم وتدهور الأخلاق وعلو الانتهازية وذبول القدوة..وانحسار القدرة.
هذا المشرق العربي الحزين، منذ أكثر من نصف قرن حدث لطاقاته وإنسانه وأحلامه تجريف كبير.. وأين فيما كان يدعى بالمراكز الحضارية الكبرى، لنصل إلى مرحلة ان تكون هذه الشعوب مجرد أدوات في تمكين السطوة لا تمكين الدولة، وتهميش للإنسان لا علو بقيمته وحقوقه، وانكشاف على أزمات اقتصادية واجتماعية تعيد إنتاج ذاتها في كل مرحلة.
ثم هاهي تدفع الثمن مرة أخرى، عندما تتدهور مؤسسات الدولة، وبحتبس الاقتصاد ويشيع الفساد وتتراكم الأزمات وتبدأ مراحل التفكك والانحسار.. لتصل إلى مرحلة الاستباحة كما نرى اليوم في العديد من البلدان العربية المنكوبة.