قبل بضعة أيام انطلقت في المملكة العربية السعودية أعمال مهرجان الجنادرية وفيه الهند تحل ضيفًا هذا العام؛ الأمر الذي يجعلنا نتساءل «هل العالم وعن حق، في حاجة ماسة في هذه الأوقات العصيبة إلى استلهام روح المهاتما غاندي الزعيم الروحي الكبير للهند؟».
ويعنّ للباحث في حياة غاندي أيضًا أن يتساءل «هل الإنسانية اليوم في حاجة حقيقية للاستفادة من طروحات هذا الرجل وشروحاته للخلاص من المصير شبه المحتوم للكون، ولا سيما بعد أن قدم العلماء ساعة نهاية العالم مؤخرًا، ولم يعد باقيًا من الزمان سوى دقيقتين على الانفجار النووي الكبير؟».
قبل سبعة عقود أطلق غاندي صيحته… «سياسة من دون أخلاق تساوي انحطاط الأمم»، والمؤكد أنه عندما تضحى الفوقية الإمبريالية، عطفًا على شريعة الغاب، هي الأدوات التي تتعاطى بها السياسة، لا المواثيق الدولية أو الشرائع والنواميس الإلهية يضحى العالم في خطر حقيقي دون مداراة أو مواراة.
في سبعينية رحيل غاندي رجل المساواة واللاعنف، يشتعل العالم بشوفينيات وقوميات وعصبيات، ونرى مدًا يمينيًا متصاعدًا، يذكرنا بما عرفته أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين من نازية وفاشية.
روح غاندي التي يحتاج إليها العالم اليوم يمكن استلهامها من حديثه عن تحرر الهند من الاستعباد الأجنبي، وعنده أن ذلك لا يكون ممكنًا إلا إذا منح الهنود أنفسهم المساواة في الحقوق للطبقات المضطهدة، وأنه لا فائدة من الحديث عن تحرير الهند ما دام الهنود لا يحمون الضعيف، ولا يساعدون العاجز، وقد طلب من جماهير الشعب وهو في السجن أن يسمحوا للمنبوذين بأن يشربوا الماء من آبارهم، وبأن يلحقوا أبناءهم بمدارسهم… أي فارق بين أحاديث غاندي وحالة اللامساواة والظلم الاجتماعي السائد اليوم.
يكاد الانفجار الكبير على الأرض، يحدث في حاضرات أيامنا من جراء اتساع هوة الفوارق الطبقية بين الجنوب والشمال، بين الأغنياء والفقراء، بين أصحاب القوة والسطوة، ومُلّاك «الأزرار النووية» والمحتلة أراضيهم… هل أتاك حديث قطع المساعدات عن وكالة غوث اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين «أونروا» من جراء رفضهم لظلم فوقي الأيام الأخيرة؟
في رسالة بعث بها أديب روسيا الكبير ليو تولستوي إلى تلميذه غاندي عام 1909، حين كان الأخير يدرس في لندن، يصف ضمير روسيا وقتها بأنه «معركة بين اللين والقساوة، وبين الوداعة والحب، ضد الكبرياء والعنف»، وهو حال عالمنا في الوقت الراهن، حيث القوة الخشنة هي صاحبة الصوت الأرفع والأنفع في تقدير أصاحبها، أما أصحاب القوة الناعمة والودعاء فخافت صوتهم.
رصدت الولايات المتحدة للدفاع موازنة هذا العام قوامها 700 مليار دولار، غير تكلفة البرامج التي لا تخطر على قلب بشر، وهي تفعل ذلك لمواجهة التجليات العظيمة للصواريخ النووية الروسية مثل صاروخ «سارمات» الذي يمكنه أن يمحو ربع مساحة أوروبا، عطفًا على إمكاناته لإزالة ولاية تكساس، كبرى الولايات الأمريكية، من على وجه الأرض دفعة واحدة.
هذا هو معيار زماننا… قوة غاشمة في مواجهة سطوة شريرة، ولا عزاء للجوعى والمهانين والمجروحين في كرامتهم الإنسانية من «بؤساء الأرض».
اعتقد غاندي طوال حياته أن الصفح أكثر رجولة من العقوبة، وأن القوي هو الذي يستطيع الصفح عن الضعيف، وأن القوة لا تأتي من الكفاية البدنية، وإنما تأتي من الإرادة التي لا تقهر.
آمن «أبو الهند» بأن الامتناع عن العنف ليس حاله سلبية، وإنما في الواقع مواجهة أسمى للضغط والاضطهاد.
رأى غاندي أن فصل السياسة عن الأخلاق من أسباب انحطاط الأمم، وكثيرًا ما أشار في أحاديثه إلى أن موجدي الأديان العظماء كانوا من الساسة الكبار، قاطعًا بأن السياسة لا تسمو وتتشرف إلا إذا امتزجت بالدوافع الدينية والإيمانية الحقيقية لا المزيفة، من قبيل النبوءات التي تسعى لتحقيق ذاتها بذاتها.
علمنا غاندي أن الحضارة الإنسانية كلٌ لا يتجزأ، وفيضٌ يغترف منه الجميع عند الحاجة، بعد أن أودعوه ما زاد عن حاجتهم وقت الفيض الروحي والمادي والإنساني.
كانت روحه نتاجًا لتلاقي الأمم والشعوب لا لتصادمها أو تعاظمها واحدة على الأخرى.
تعرف غاندي على مؤلفات تولستوي وقرأها وآمن بروحها قبل حروفها، وانعطف في الطريق على «رأس المال» لماركس، ثم اطلع على مؤلفات لينين، بالقدر نفسه الذي تعاطى به مع كتابات الأمريكي الثائر على الحرب الأمريكية ضد المكسيك هنري ثورو.
سبر غاندي عمق أعماق الدين؛ ما قاده إلى حقيقة مطلقة وهي أن الأديان لها رسالة واحدة، وهي تعظيم شأن الإنسان والحض على حفظ حياته وكرامته وممتلكاته وأمله في حياة أفضل.
أفكار غاندي السلمية يمكن لنا أن نختصرها في كلمات قلائل دون خلل: «اللاعنف هو أعظم القوى في خدمة الجنس البشري، وأقوى سلاح ابتدعته عبقرية الإنسان… اللاعنف هو التحرر من الخوف والسعي إلى العدالة».
لا تقوم الوطنية الحقيقية على الرؤوس النووية، ولا يمكن لها أبدًا أن تعلو على النزعة الإنسانية… آفة عصرنا أن الأمم القومية البعيدة النفوذ، تمعن في الوطنية الضيقة الحمقاء، تمزق الروابط الإنسانية، وتغلب المصلحة الخاصة على العام.
أحسن مهرجان الجنادرية باختيار الهند ضيفًا، حيث المجال مفتوح للتفكر في نموذج غاندي، الزعيم الروحي المناوئ والضد من آفات حارتنا الأرضية بدءًا من الكبرياء الروحية، وصولًا إلى الصواريخ النووية.