لدي قناعة بأن امتنا ما تزال بخير، وان فقدت كثيرا من عافيتها، وبأن اخراجها من «ازمتها» ما زال ممكنا، وان كان ذلك بعيدا، ومصدر هذه القناعة ان «الاجل» لم يدرك امتنا – كما ادرك غيرها – لارتباطها بالرسالة الخاتمة، وتكليفها بالدعوة والشهادة، وامتلاكها «للباعث» على الصحة والاستمرار وهو الوحي الذي لا يتعارض مع العقل والوعي وقدرتها الذاتية على مواجهة اسباب مرضها كما فعلت اكثر من مرة.
ثمة من يرى ان هذه الامة لن تصلح الا بما صلح به اولها، وثمة من يرى انها لن تصلح الا بما صلح به غيرها، لكن المهم هنا هو الصلاح، المتعلق بالأمة لا بمجرد الافراد، وبالمناخات لا مجرد السلوكيات، وهذا لا يتحقق الا اذا تحول الصلاح الى اصلاح، وانتقل من دائرة التنظير الى العمل ومن معالجة الاعراض الى فهم الامراض وتشخيصها ومعرفة مراحلها واستدراك اخطارها.. وهذه مهمة المصلحين في المجتمعات والباحثين في المراكز البحثية والجامعات قبل ان تكون مهة الساسة والحكومات.
في كتابه «شروط النهضة» يرصد مالك بن بني حالة المريض «العربي» الذي لم يبرأ منذ مئة عام من آلامه: الاستعمار ونتائجه، الامية بأشكالها، الفقر والظلم والقهر…الخ، وليس امامه سوى طريقتين للتخلص من هذه الآلام: معالجة المرض واستئصاله او «اعدام» المريض.. وحين جرب الدخول الى صيدلية الحضارة الغربية للحصول على وصفة «العلاج» لم يجدها، وعليه يقترح ابن بني ثلاثة مستويات لفهم مشكلة الانسان العربي مع الاصلاح: مشكلة الانسان وتغييره يبدأ من النفس، بمعرفتها وتعريفها للآخرين وبمعرفة الآخر وعدم التعالي عليه، ومشكلة التراب من حيث قيمته الاجتماعية وحلها موجود في اعادة الاعتبار لقيمة «الشجرة» التي تكسر حدة التصحر الذي يعاني منه الانسان، والمشكلة الثالثة تتعلق بالوقت الذي هو المكوّن الاساس لأي حضارة.
لكن ابن بني يعيد «تراجع» الامة عن تحقيق النهضة الى عدة اسباب منها «قابليتها للاستعمار» وشيوع ثقافة الاستهانة والتهوين، وطغيان الاشياء والاشخاص والافكار والانشغال بالتفاصيل لا بالكليات وهذا ما يوافق عليه بعض دعاة الاصلاح المعاصرين، اذ يرى الدكتور ماجد الكيلاني مثلا ان الاسباب التي تؤدي الى مرض الأمم وقرب آجالها منها ما هو طبيعي كالهرم وانتهاء زمن الابتلاء، ومنها ما هو مرضي يتعلق بمخالفة قواعد صحة الأمم واهم تلك القواعد «الدوران» حول الافكار المنتجة بدل الدوران حول الاشخاص والأشياء، وهي نتيجة تضمنها القوانين الطبيعية والسنن الكونية ايضا.
تبقى مسألتان: احداهما انه من باب التسطيح الفكري اثارة سؤال مثل من يتحمل مسؤولية الكبوة؟ ومن يتحمل مسؤولية النهضة ايضا باعتبار ان الجميع يتحملون هذه المسؤولية ويتقاسمونها وان الانشغال بها يوطّن الازمة لا يحلها، والاخرى انه من باب «التنفيس» اثارة سؤال مثل هل من خروج الى سبيل، بدون فهم وعمل، باعتبار ان نشر الأمل في مقابل اليأس هو ما نملكه لوقف ما اعترى امتنا من تراجع.. وفي ظني ان الأمل المغشوش هو الوجه الآخر لليأس.. وان ما نحتاجه هو العمل المنتج للأمل.. والممارسة التي تحيي الفكرة.. والمصلحون الحقيقيون القادرون على صناعة الحدث لا مجرد كتابته او تدوينه.. وهؤلاء -للأسف – ما زالوا في رحم الغيب.