صنفان من الناس يسعان جاهدين إلى تلويث هواء الأمة المعطر برائحة القدس هذه الأيام، وهما كانا يفعلان ذلك قبل قرار ترامب بطبيعة الحال. تحديدا من يوم أن خرجت إلى العلن قصة «صفقة القرن» لصاحبها ترامب، وبرعاية صهره الصهيوني «كوشنر»، مع العلم أن كثيرا منهما موجودون يرفعون رؤوسهم بين حين وآخر، بحسب ما تتطلبه حاجة المشغّلين والمشجّعين.
نفتح قوسا كي نشير هنا إلى أن هؤلاء يمكن أن يتحوّلوا إلى مسار آخر، إذا استدعت حاجة المشغّلين والمشجّعين، فلا تستغرب مثلا أن يصبحوا ثوريين في يوم ما في مواجهة الكيان الصهيوني؛ إذا حدث أن تغير المسار.
غير أن ذلك لا ينفي أن هناك من يتأثر بتلك الأصوات من الناس العاديين، ويغدو بتأثير الإعلام ومواقع التواصل ممن يردد مقولاتها دون وعي، وغالبا عبر استنفار المشاعر العنصرية التي يركّز عليها أولئك أيما تركيز لحشد الناس من حولهم، بكذبة حقيرة عنوانها أن «الفلسطينيين يكرهوننا» (يمكن أن يُقال ذلك في حق أي شعب بحسب الحاجة، وقد قيل، لأن العنصرية ليس لها حد ولها نهاية)، لكن ما ينبغي قوله دون تردد أن حجم التأثر بدعايتهم لا يزال محدودا، وسيبقى كذلك؛ لأن في هذه الأمة من مخزون الوعي ما يجعلها عصية على حملات من هذا النوع.
من ينتمون إلى هذه الدعاية هم حشد من الموظفين، إلى جانب حفنة ليست كبيرة من النخب، وغالبا من تلك التي تدعي الانتماء للتيار الليبرالي الذي لا صلة له بمفردات الليبرالية الأساسية في الحرية والتعددية، وإن انتمى إليها فقط في الجانب الاجتماعي. أما المؤسف حقا، فهو أن تجد من ينضم إليهم من قلة محدودة جدا ممن يُحسبون على الدين، وهؤلاء يفعلون ذلك في الغالب رغبا ورهبا، بينما يضيف أولئك إلى ذلك مشاعر النكاية بالإسلاميين، بل بكل المتدينين.
حين تتابع الدعاية السخيفة لكل أولئك، فلن تجد ما يستحق الرد، لكن لا بأس من المرور على عناصرها من باب العلم بالشيء، ونعني هنا تلك الدعاية الخاصة بالقضية الفلسطينية على وجه التحديد، ولا حاجة للتوقف عند مبتذلين بلغت بهم الوقاحة حد القول إن القدس لليهود؛ لأن ذلك سيدخلنا في دروس تاريخية لا مجال لها هنا.
من أهم مقولات أولئك، وقد يستغرب ذلك من لا يتابعهم «أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود». ولعمري إن من لا يرى الدم الفلسطيني الذي يسيل منذ قرن ولغاية الآن، لا يعدو أن يكون أعمى البصيرة، ومن لا يرى أن فلسطين وقعت تحت الاحتلال، ولم يتم شراؤها بالأمتار والدونمات هو سفيه. أما أن يكون حفنة من الناس باعوا هنا أو هناك، فهم ساقطون يتوفر مثلهم في كل شعوب الأرض.
من معزوفات الجهل إياها ما يتعلق بادعاء الحكمة بالقول إن على الفلسطينيين أن يجدوا حلا مع العدو؛ لأن العناد واستمرار الرفض لم يأت بنتيجة، وفي هذا السياق تتردد قصة قرار التقسيم، وكامب ديفيد وسوى ذلك.
هنا يتبدى الجهل المطبق. فالعدو لم يوافق على قرار التقسيم، وهو لم يوافق على أي قرار، ولم يعرض أي شيء في أي وقت، وما موقفه من المبادرة العربية إلا تأكيدا لذلك. هو كان ولا يزال يطلب من الفلسطينيين والعرب التنازلات دون أن يعرض شيئا، اللهم سوى حكم ذاتي هزيل على أجزاء من فلسطين لا تتعدى 10 في المئة من مساحتها التاريخية.
من نظريات الجهلة إياهم القول إن علينا الاهتمام بأوطاننا، لكأن الاهتمام بفلسطين يمنع الاهتمام بالأوطان. أما الأهم، فهو لماذا لا يتركون فلسطين وشأنها أصلا، ولماذا يتدخلون في قضيتها لصالح العدو؟!
والخلاصة أننا إزاء أصوات تضيف إلى السقوط الكثير من الجهل، وهي تسيء لمن يوجّهونها ويشغّلونها، في ذات الوقت الذي لن تؤثر في الوعي الجمعي للغالبية الساحقة من أبناء الأمة. بل إن سخفها ما لبث أن استدعى أصوات رفض التطبيع لتعاود نشاطها من جديد، قبل أن تمنحها قضية القدس بعد قرار ترامب دفعة أقوى.