أحسب أن الصدفة وليس التخطيط، هي التي جعلت المظاهرات الاحتجاجية في تونس والسودان تتوافق مع ذكرى أحداث الربيع العربي. فالمظاهرات في البلدين ارتبطت بإجازة ميزانيتين ألقتا بعبء كبير على المواطن المطحون أصلاً بأوضاع اقتصادية ومعيشية أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها صعبة وضاغطة. الظروف كانت مهيأة بالتأكيد لانفجار الغضب والاحتجاجات، وإجازة الميزانيات كانت الشرارة التي حددت التوقيت، ولو أنها حدثت في أي توقيت آخر، فإن رد الفعل لم يكن سيختلف بغض النظر عن تزامنه أو اختلافه مع ذكرى تلك الأيام الشتوية التي أطلق عليها مجازاً «الربيع العربي»، وأثارت ما أثارت من جدل لم ينقطع بسبب ما أطلقته من أحلام وآمال، وما انتهت إليه من إحباطات وآلام.
الحكومة التونسية التي جاءت نتيجة لذلك الربيع سارعت إلى الاعتراف بأن الوضع الاقتصادي صعب، وأعلنت حزمة من الإجراءات والبرامج الاجتماعية لمساعدة ذوي الدخل المحدود والمعوزين، وتخفيف الضغوط الناجمة عن إجراءات الميزانية الجديدة. أما الحكومة السودانية التي عاندت الربيع وقمعته في مختلف مراحله معلنة أنها محصنة ضده، فإنها واجهت المظاهرات التي خرجت خلال الأيام الماضية ومنذ إعلان ميزانية عام 2018 بالهراوات والاعتقالات والغازات المسيلة للدموع، معلنة أنه لا تراجع عن الميزانية ولن تغير فيها سطراً واحداً. الفارق هنا أن تونس تعلمت من تجربتها أن تقول للشعب «فهمناكم»، وأدركت أنه في حين يمكن للناس انتقاد الربيع العربي في النتائج التي انتهى إليها خصوصاً بعد تجارب سوريا وليبيا واليمن، لكن لا يمكن انتقاده في الأسباب التي قادت إليه، سواء فيما يتعلق بالضغوط المعيشية والاقتصادية، أو الحقوق والكرامة الإنسانية. فالإصلاح لا يتحقق بمواجهة الشعب، بل بالاستماع إليه، والعمل على تلبية حاجاته وتحقيق طموحاته، وفوق كل ذلك صون كرامته.
لهذا السبب اختار الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ألا يحتفل بالذكرى السابعة للثورة التونسية في قصر قرطاج، بل توجه إلى أحد الأحياء الشعبية في العاصمة التي شهدت احتجاجات واسعة منذ إعلان الحكومة لميزانية 2018، ليعلن من هناك عن «صندوق الكرامة» لمساعدة العائلات الفقيرة، وليؤكد الإجراءات والبرامج التي ستنفذ لمساعدة ذوي الدخل المحدود والمعوزين والعاطلين عن العمل. وبدا معتذراً لشعبه عن محدودية هذه الإجراءات في مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة قائلاً إن تونس لا تملك إمكانيات كبيرة، «ويجب أن نعرف كيف نستثمر هذه الإمكانيات المتواضعة ونوزعها بعدل».
في السودان يبدو الوضع أصعب بكثير، والأزمة مرشحة إلى تفاقم، لكن الحكومة اختارت حتى الآن على الأقل مواجهة الغضب الشعبي بسياسة العصا الغليظة، ومحاولة البحث عن جهات تلقي عليها المسؤولية أو تصرف بها أنظار الناس عن المشكلات المزمنة، والأوضاع المتردية على أكثر من صعيد. فبعدما قالت الحكومة إنها تسمح بحرية التعبير السلمي للمواطنين، والتظاهر السلمي وفقاً للدستور، إلا أنه سرعان ما غلب الطبع على التطبع، فلجأت إلى القمع والتنكيل والاعتقال في مواجهة المتظاهرين الذين رددوا شعارات «سلمية… سلمية»، و«لا… لا للغلاء»، و«حرية… سلام وعدالة». إضافة إلى ذلك سعت الحكومة إلى إلقاء اللوم على «السماسرة» واعتبرتهم مسؤولين عن ارتفاع الأسعار، متوعدة بإنزال عقوبات رادعة عليهم.
هذه سياسة لا تريد أن ترى الأمور على حقيقتها، ولا أن تسمع الشارع ومطالبه. فالأزمة وإن فجرتها الميزانية الجديدة بإجراءاتها التي زادت الأعباء المعيشية على كاهل المواطنين المرهقين أصلاً من تبعات أعوام من السياسات الخاطئة، إلا أنها كانت تتفاعل منذ سنوات، وأدت قبل ذلك إلى تفجر الغضب والمظاهرات مثلما حدث في احتجاجات سبتمبر (أيلول) 2013 التي قتل فيها العشرات (الحكومة وضعت العدد عند 80 قتيلاً، بينما منظمات المجتمع المدني قدرتهم بمائتين)، أو في الاحتجاجات التالية المتقطعة التي كان آخرها العام الماضي.
الأوضاع السياسية لم تشهد اختراقات حقيقية رغم شعارات وجلسات الحوار، بينما الحروب والتوترات مستمرة على عدة جبهات وإن تراجعت حدتها، أما الاقتصاد فقد شكل الفشل الأكبر، إذ شهد تردياً مريعاً، بينما تفاقمت المعاناة على الناس الذين كانوا يرون تضخماً في الحكومة (80 وزيراً ووزير دولة إضافة إلى مساعدي الرئيس) وتراجعاً في الأداء. حتى «الطفرة» النفطية القصيرة لم تخرج الاقتصاد من أزمته بعدما بددت في الإنفاق البذخي والصرف العسكري والأمني، ليقضي الفساد الذي استشرى على ما تبقى، قبل أن يذهب الجنوب مع غالبية النفط في انفصال عام 2011. كانت تلك فرصة حقيقية لمعالجة مشكلات هيكلية في الاقتصاد السوداني، وتنفيذ سياسات إنتاجية حقيقية وإنقاذ مشاريع زراعية كبرى، لكنها ضيعت، وعاد السودان ليبحث عن المنح والهبات والقروض لمواجهة العجز المتزايد في ميزانياته، وتسكين الأزمة الاقتصادية بحلول تؤدي في الواقع إلى تفاقمها.
المظاهرات في تونس والسودان تفجرت بسبب الميزانية والأزمة الاقتصادية، لكن المعالجة في البلدين تبدو مختلفة، كما النتائج، وأحسب أن الأزمة في السودان أعمق وتهديدها أكبر.