نون والقلم

حافظ البرغوثي يكتب: هكذا تدار سياسة البيت الأبيض تجاه فلسطين

في مقالين الشهر الماضي أشرت إلى كيفية صنع القرار في عهدي الرئيسين هاري ترومان ودونالد ترامب ثم صفقة القرن وكيف أن حلقة ضيقة تتولى الإقناع، والقاسم المشترك بين حلقتي ترومان وترامب أن الرئيسين اعتمدا على مستشارين مؤيدين لـ«إسرائيل» وأهملا رأي وزارتي الدفاع والخارجية، بخصوص قرار تقسيم فلسطين سنة 1947 والاعتراف بدويلة «إسرائيل» في زمن ترومان، والاعتراف بالقدس عاصمة لـ«اسرائيل» في زمن ترامب، وهذا الأخير خضع لإملاءات مستشاره السابق «المسيحي -الصهيوني» ستيف بانون وصديقه ومموله الانتخابي الملياردير اليهودي أدلسون، وهما بانون وأدلسون عرضا الفكرة على نتنياهو أولا ثم على ترامب كما ورد في كتاب: «نار وغضب في البيت الأبيض» لمايك وولف وهو من أب يهودي وأم مسيحية، لكن طبقاً لنواميس اليهودية فهو يجب أن يتهود لأن الأصل أن تكون أمه يهودية. ويتضح أن الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» وإلحاق الضفة بالأردن وغزة بمصر، كانت فكرة بانون الإنجيلي اليميني المتعصب. لكن الصفقة تغيرت ملامحها لاحقاً وتحولت إلى مجرد حل انتقالي كما اتضح من لملمة الأسئلة التي كان يطرحها ترامب ومبعوثوه أثناء لقاءاتهم مع قادة ومسؤولين عرب. فبعد خروج أو إخراج ستيف بانون من البيت الأبيض بعد صراعه مع جاريد كوشنر صهر ترامب، حول صنع القرار طاب الأمر للوبي اليهودي الثلاثي كوشنر وغرين بلات والسفير فريدمان، وهم على صلة مع نتنياهو ومع أطراف عربية، إذ يعتبرون أفكار بانون متطرفة جداً ولن يكتب لها النجاح ويصعب تسويقهاً عربياً، ولم ييأسوا من طرح الأسئلة ذاتها على الجانب العربي وخاصة الفلسطيني وهي أسئلة مكررة، حتى أن الرئيس الفلسطيني رفض مقابلة كوشنر مرتين في النهاية ورفض مقابلة ترامب قبل وبعد إعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل». فالأمريكيون كانوا يقيّمون ردود الفعل على فكرة الكونفدرالية الأردنية -الفلسطينية لكن الأردن رفض الفكرة والسلطة الفلسطينية معا، باعتبار أن إقامة الكونفدرالية فوراً يتيح لـ«اسرائيل» تهجير سكان الضفة والقدس إلى الأردن. وطالب الجانبان بضرورة إقامة دولة فلسطينية أولا وتحديد حدودها قبل ذلك لخلق واقع وجود دولة معترف بها دولياً تتحد لاحقاً مع الأردن كونفدرالياً.

الفكرة الأمريكية كانت أنه بعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» وبموافقة عربية وفلسطينية فإن «إسرائيل» ستعترف بدولة فلسطينية لكن دون تحديد حدود ودون أدنى سيادة، ويجري التفاوض لسنوات لتحديد حدودها وصلاحياتها، أي أن تكون هناك فترة انتقالية على طريقة اتفاق أوسلو. بالطبع هذه الأفكار سبق أن طرح بعضها «الإسرائيليون» في السابق لكن فريق ترامب أعاد صياغتها بالتعاون مع مكتب نتنياهو ثانية ليسهل تمريرها عربياً ودولياً.

بمعنى آخر أن ترامب أبلغ بعض العرب بفكرته كنوع من التخدير لتمرير اعترافه بالقدس فانكشفت الخدعة. وكان قد كلف نائبه مايك بنس بمهمة لشرح صفقته بعد الاعتراف لكن الرفض الشامل لضم القدس أرجأ الزيارة مع العلم أن بنس مثل بانون «انجيلي – صهيوني» ولم يكلف من قبل بمهمات سياسية. وكانت زياراته بروتوكولية محضة إلا في الشأن الفلسطيني الذي يتخذ فيه موقفاً أكثر تطرفاً من اليمين «الإسرائيلي». فمن مآخذ بانون على كوشنر أنه ليس متطرفاً جداً في دعم «إسرائيل» مع العلم أن والده المرابي العقاري المتهرب ضريبياً يعتبر من أكبر داعمي «إسرائيل» ، وكان قبل ذلك يرفض التبرع لها. فالصراع داخل البيت الأبيض بين حلقة من اليهود يتسابقون في إقناع الرئيس ترامب في كيفية دعم «إسرائيل» وتغيير أفكاره. فالرئيس ترامب يبدو لمستمعيه متفهماً للطروحات الفلسطينية في محادثاته، ويتفهم الرفض الفلسطيني لأي تواجد عسكري «إسرائيلي» في الأغوار، ونشر قوات دولية أو أمريكية على الحدود مع الأردن، فيسمع ترامب هذا الكلام ويسأل مستشاره للأمن القومي هيربرت مكماستر كم من القوات لنا هناك فيرد عليه مستشاره حوالي خمسة آلاف في سوريا، وهناك قوات في أفغانستان فيرد ترامب ما الذي نفعله في أفغانستان، فلنسحبها من هناك. وعندما عرف ترامب حقيقة وجود 28 في المئة من العرب والمسيحيين في «إسرائيل» قال لنتنياهو كيف تريدها دولة يهودية وفيها هذه النسبة من غير اليهود. فالرئيس الأمريكي مرتهن لحلقة ضيقة تقوم بتغيير أفكاره وإملاء أفكارها عليه.

فصناعة القرار داخل البيت الأبيض تشوبها تدخلات لاهوتية إنجيلية وتلمودية وسياسية يمينية تتخذ فيه القرارات بطريقة غوغائية حسب أمزجة معينة وأجندات تخدم مصالح إنجيلية – «إسرائيلية» تلمودية.

 نقلا عن صحيفة الخليج

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى