نون والقلم

إيران وإسرائيل والأسد و «داعش» تشقّ دروب اللاجئين

تُرك السوريون لمصيرهم، يمارس نظام بشار الاسد ضدّهم كل ضروب الإبادة والإجرام والتدمير، فهذا حاكمٌ يقتلع شعبه اقتلاعاً على مرأى من العالم. وقبلهم تُرك العراقيون لمصيرهم، فرّوا أولاً من بطش نظام صدّام حسين، وهُجّروا أيضاً بفعل الاحتلال الاميركي والحرب الأهلية التي اشتعلت في ظلّه ثم بفعل الارهاب «القاعدي» فـ «الداعشي». كذلك الليبيون متروكون الآن لمصيرهم، فمَن لم يدفعه نظام معمر القذافي الى الهجرة تولّت الميليشيات طرده باسم «الثورة». وقبل هؤلاء جميعاً تُرك الفلسطينيون يتشتتون في كل أصقاع الأرض بعدما اصطفت دول «العالم الحرّ المتقدم» لمباركة الاحتلال الاسرائيلي والجرائم التي ارتكبها لاقتلاع السكان من بلداتهم وبيوتهم. ومع هؤلاء جميعاً كانت «حروب الآخرين» في لبنان اضطرّت كثيرين من أهله لركوب البحر الى قبرص ومنها الى كل مكان. وكاد اليمنيون ينجون من هذه المحنة، رغم سوءات نظام علي عبدالله صالح، إلا أن الحوثي، عدوّهم الداخلي الآخر، شاء للبلاد مصيراً ايرانياً بات صنواً للخراب المتعمّد.

تعدّدت الأسباب والمنفى القسري واحد، فإذا الطغاة يتناسلون ويتشابهون، من الاسرائيلي الى الايراني، ومن الصدّامي الى الاسدي والقذافي والحوثي/ «الصالحي». ووراء هؤلاء وقف الاميركي دائماً أكان يقود من أمام مثل جورج دبليو بوش وأسلافه أو من خلف كباراك اوباما، ووقف أيضاً الروسي أكان الاتحاد السوفياتي أو روسيا فلاديمير بوتين. ولم تكن قيادة الطغاة لتعني ولا مرّة حلَّ الصراعات والأزمات بل ادارتها لاستغلالها. هذا النهج الاستبدادي مستمر بلا أي تغيير على مستوى الدولتين الكبريين، متصارعتين أو متوافقتين، سرّاً أو علناً. فلا اوباما يستطيع الادعاء بأنه «رجل سلام» لأنه لم يحرّك جيوشه مفضلاً حروباً بالوكالة أقلّ كلفةً، ولا بوتين يستطيع أن يخادع بأنه يريد «اصلاح» النظام العالمي، فإصلاحه هذا بات مُختزلاً بالتمسّك بالأسد ونظامه لتقسيم سورية، وبافتعال حرب أهلية لتقسيم اوكرانيا. وعلى مرّ العقود تناوبت الدولتان على تعطيل القانون الدولي، فجعلا من الأمم المتحدة مجرّد كيان مشلول وعاجز.

لا مبالغة في القول أنه كان هناك دائماً بحث عن «شريعة غابٍ» ما مستدامة في الشرق الأوسط. فما يسمّى المجتمع الدولي لم يبالِ يوماً بـ «حماية المدنيين» الفلسطينيين، لا بموجب المعاهدات الملزمة لسلطات الاحتلال الاسرائيلي، ولا بأي قانون أو قرار لمجلس الأمن أو أي عُرف انساني. كانت تلك رسالة واضحة الى اسرائيل بأن أحداً لن يحاسبها، وكذلك الى الأنظمة المستبدّة التي شعرت بأنها محصّنة فتحوّلت مع الوقت الى عدو وسلطة احتلال داخليين. بل ان هذه الممارسة الدولية اللامسؤولة والمتهوّرة أقرب الى وصفة مدروسة لاستنهاض التطرّف والارهاب. لذلك حين أزف اسقاط تلك الأنظمة، بتدخل القوى الخارجية اياها كما في العراق وليبيا أو من دونها كما في سورية واليمن، ارتسمت اشكالية «الاستبداد – الارهاب» أمام الداخل والخارج معاً، لكن الخارج بدا أكثر تأهّلاً لتوظيفها والاستفادة منها.

فأميركا/ أوباما التي انسحبت من العراق مفتخرةً بأنها أقامت فيه «ديموقراطية» سرعان ما تبيّن أنها واقعياً سلّمت البلد الى ايران التي أعادت انتاج الاستبداد الذي اجتذب الارهاب الذي أعاد اميركا الى العراق لتجد ايران في انتظارها لتكون «شريكة» في محاربة الإرهاب الذي ساهمت مباشرة في انتاج نسخته «الداعشية» من خريجي «القاعدة» ومعتقلي السجون السورية والعراقية. أما روسيا/ بوتين فكانت طوال الوقت منسجمة مع الخط الايراني، لأن «الاستبداد – الارهاب» بالنسبة اليها ليس «جدلية» فلسفية بل معادلة تعني مضاعفة حاجة الأنظمة الى السلاح. ففي سورية، مثلاً، وجدت موسكو أن تلك المعادلة استشكلت أخيراً الى حدّ بات يتطلّب أن تستثمر فيها مباشرةً ولا تكتفي بتلبية حاجات النظام وتحصيل الفواتير من حليفه الايراني، لذلك كان شروعها في اقامة بنية تحتية لقاعدة عسكرية ثانية بمثابة تكذيب رسمي وفعلي لما ردّدته مراراً بأنها «غير متمسكة بالأسد»، وتكذيب أيضاً لما روّجته عن خلافها مع طهران التي ترفض الاعتراف بـ «بيان جنيف 1». الواقع أن روسيا وايران تفعّلان تحالفهما في سورية لتفرضا شراكتهما ونظام الأسد في «الحرب على داعش»، كونها أصبحت مدخلاً الزامياً الى «حلّ» الأزمة السورية.

ثمة مدخل إلزامي آخر انفتح أخيراً الى ذلك «الحلّ» عبر المهاجرين المتدفّقين على اوروبا. فبعدما تعهّدت الحكومات الاوروبية جميعاً لناخبيها بسياسات صارمة لمكافحة الهجرة غير الشرعية، ها هي ترضخ لضرورة استيعاب الهجرية القسرية من سورية والعراق. هنا أيضاً لعب ثنائي «الاستبداد – الارهاب» دوراً محورياً أشار اليه وزير الخزانة البريطاني بقوله إن المشكلة تكمن في «نظام الاسد الشرير وارهابيي داعش» ولا بدّ أن تُواجَه «في المنبع». لكن هذا التشخيص للمشكلة كان معروفاً قبل نحو عام على ظهور «داعش» كحليف ضمني للنظام، تحديداً منذ هدّد الاسد للمرة الأولى في لقائه مع أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي آنذاك «بإشعال المنطقة خلال ست ساعات» (تموز/ يوليو 2011). كان هذا ردّه على كل العواصم الغربية التي دعته وقتئذ الى «اعلان اصلاحات جدّية وقيادة تنفيذها» (!) احتواءً للانتفاضة الشعبية التي كانت لا تزال في طورها السلمي. بعد أسابيع قليلة بدأ مسلسل الإخفاق الدولي في مجلس الأمن، ولا يزال مستمرّاً.

كان الفشل الدولي الأول في استجابة استغاثة المتظاهرين المطالبة بـ «حماية المدنيين»، فلا «القانون الانساني الدولي» المعني بأبسط حقوق الانسان ولا قرار «الاتحاد من أجل السلام» كانا كافيين لاقناع روسيا والصين بالامتناع عن استخدام «الفيتو» لوقف جرائم يومية موثّقة. وأدّى اليأس من توفير تلك «الحماية» الى المرحلة التالية، أي عسكرة الصراع، كما سعى اليها النظام معتقداً بإمكان حسمها سريعاً لمصلحته، وبدأت مجازره المتنقّلة بين المناطق تدفع بالمهجّرين الى الداخل والنازحين الى الخارج. أما الفشل الدولي الأكثر خطورة فارتكبه الاميركيون عندما أغرقوا المعارضة وداعميها في متاهة جدالات عقيمة حول المعتدلين الممكن تسليحهم والمتطرفين غير المرغوب فيهم، وحول الخشية من التنظيمات الارهابية وإمكان وقوع الأسلحة في أيديها. ولم تبدّل واشنطن ذرائعيتها العدمية رغم تراجع أحوال المعارضة ميدانياً، بل حتى بعدما أدّت الهزائم الى وقوع المحظور بانتشار «داعش» وتوسّعه.

ليس معروفاً في أي رواية كانت واشنطن تكذب، أفي تحذيرها المسبق من ظهور الارهاب أم في حربها عليه، أم في كليهما؟ تذهب «نظريات المؤامرة» الى أن اميركا تعتبر «داعش» من تداعيات حربيها على الارهاب والعراق ومن النتائج التي توقّعتها من ادارتها للأزمة السورية. اذاً، فلا عزاء لأوروبا المربكة حالياً في ادارتها لـ «غزو» المهاجرين، وقد لمست أخيراً مردود التقصير في مواجهة نظام الاسد وحلفائه. واذا كانت حكومات اوروبا غلّبت أخلاقياتها الانسانية على اعتباراتها السياسية الداخلية إلا أن ترحيبها البطيء والمتأخّر باللاجئين يعيد الى الأذهان ممارسات مشابهة سابقة تجاه شعوب اخرى، اذ يرى كثيرون في فتح أبواب نذيراً بأن نهاية أزمة سورية ليست في الأجل المنظور.

في أي حال، ثمة حكومات اخرى لم ترَ ضرورةً للتمتع بفضيلة الصمت طالما أن الأخلاقيات تعوزها: اذ لم تتردد طهران، كأي طرف مراقب ومحايد، في حثّ الاوروبيين على القيام بـ «الواجب الانساني» ازاء المهاجرين. فيما تنكّر بوتين نفسه بزيّ «الشبّيحة» ليقول أن هؤلاء لم يهربوا من سورية بسبب نظام الاسد. أما الجدل الاسرائيلي فكان نموذجاً انحطاطياً بامتياز، سواء من جانب زعيم المعارضة اسحق هيرتزوغ الذي دعا الى استقبال لاجئين سوريين متجاهلاً أن ثمة لاجئين فلسطينيين استولت دولته على أرضهم وحقوقهم بل ان فلسطينيين فرّوا من مخيمات سورية وترفض دولته لجوءهم الى مناطق السلطة الفلسطينية، أو من جانب رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو ووزرائه الذين هرعوا الى رفض دعوة هيرتزوغ كما لو أن اللاجئين يتزاحمون على المعابر الحدودية.

نقلا عن صحيفة الحياة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى