ما هكذا تكون الاحتفالات!! تونس وهي تحيي هذه الأيام الذكرى السابعة لرحيل بن علي لا تبدو في أجواء احتفالية أبدا. كثير من مدن البلاد تعيش على وقع مظاهرات احتجاجية ضد غلاء المعيشة وتفشي البطالة وتعثر الكثير من المشاريع التنموية التي وعد بها أهلها. لم تكن هذه المظاهرات سوى تعبير عن الضيق الذي وصل مداه لدى شرائح اجتماعية كثيرة لم تعد قادرة على تحمل المزيد من انسداد الآفاق أمام أي عملية تنموية تعطي وميض أمل، ولو خافت، في مستقبل أفضل.
المشكل أن هذه الضائقة الاقتصادية تترافق مع بيئة سياسية مخنقة ومملة تصحبهما خيبة أمل عامة من مجمل الطبقة السياسية في البلاد ومن إعلام خاص لم ينجح في شيء نجاحه في تيئيس الناس من كل ما له علاقة بالثورة مع تسخيف الحياة السياسية وإعلاء شأن التافه من القضايا والشخصيات. المشكل أيضا أن تونس وهي تواجه هذه الوضع الاقتصادي الصعب في ظروف إقليمية ودولية معقدة للغاية لم تجد من يقف إلى جانبها لإنجاح تجربتها والمساعدة في أن تصبح فعلا نموذجا لتحول ديمقراطي ناجح في استحقاقاته السياسية وكذلك في مشاريعه التنموية القادرة على تنفيس الاحتقان الاجتماعي.
لقد أكد لي أكثر من مسؤول تونسي بارز سابق أن البلاد في ضائقتها الاقتصادية هذه لم تظفر بالمساعدة الدولية أو العربية المأمولة، لا من حلفائها التاريخيين كفرنسا والولايات المتحدة ولا من الاتحاد الأوروبي ولا حتى من الدول الخليجية العربية الغنية، باستثناء دولتين فقط هما تركيا وقطر (أرجو من المسؤولين الحاليين تصحيح هذا الاستنتاج إذا لم يكن صحيحـــا). ومع ذلك، فتركيا وقطر هي من أكثر الدول عرضة للانتقاد إعلاميا في أكثر من منبر إلى حد وصل بأحد «جهابذة» المعلقين التلفزيونيين إلى التشهير بمدرب المنتخب الوطني لكرة القدم لأن معسكر المنتخب سيتم في الدوحة وكأنه سيتم في إسرائيل!!
الأخطر في تشخيص الوضع الاقتصادي ما أشار إليه عدد من الشخصيات الهامة في المجتمع المدني باتت اليوم على قناعة أنّ «المستفيد الأوّل من سقوط النظام القديم هو جماعات المال الفاسد والمافيا. فالهوّة لم تتقلّص بين تونس الدّاخل وتونس السّواحل؛ وسكّانُ الأرياف مازالوا يعانون غياب تكافؤٍ هيكليّ مع المجتمع الحضري. وما فتئ سكان الأحياء الحزامية حول المدن الكبرى يغرقون في التهميش؛ ولا وجود لأيّة اِستراتيجية لإدماج الأنشطة المُوازية ضمن الاقتصاد المهيكل (…) وما برحت الطبقة الوسطى، وخاصّة أصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسّطة، يخضعون إلى ضغط الدولة المتواصل، ويجدون أنفسهم بين فكّي الاقتصاد الموازي والمنظومة الريعيّة حيث تستأثر فئة محدودة بالنفوذ الاقتصادي وتستفيد من عائداته»… كما جاء في بيان وقعه هؤلاء في الذكرى السابعة للثورة.
ما يزيد كل ما سبق خطورة على خطورة، هو توجه التونسيين عموما، أكثر فأكثر، إلى الركون إلى مزاج تشاؤمي عام يلفظ كل الطبقة السياسية ولا يثق فيها ولا في أبرز وجوهها. اذهب وتحدث مع عموم الناس، خارج المتحزبين الميالين بطبعهم إلى التبرير والتهوين، ستجد أن أغلبهم لم يعيدوا يطيقون مثلا لا رئيس الدولة الباجي قايد السبسي ولا رئيس حركة «النهضة» راشد الغنوشي ويحملهما معا مسؤولية إجهاض الكثير من آمال التغيير الجارف بعد الثورة. وصل الأمر بالمؤرخ التونسي الكبير الدكتور عبد الجليل التميمي في محاضرة له بمعرض الكتاب في الدوحة الشهر الماضي إلى حد اتهامهما معا بــ»اغتصاب الثورة»… تعبير قاس للغاية ومؤلم.
عندما تلتقي هذه العوامل: احتقان اقتصادي واجتماعي مع عدم ثقة في الطبقة السياسية فالمآل لا يمكن إلا أن يكون مخيفا. دعنا نعترف أن الكثير من المشاكل الاقتصادية لا تعود مسؤوليته في المطلق للحكومة فتونس في النهاية بلد محدود الامكانيات والوضع الاقتصادي صعب في أغلب دول العالم، بما فيها النفطية والغنية كالسعودية وإيران على سبيل المثال لا غير، والناس أيضا لم تعد تعمل كما يجب وأدمنت المطلبية لا غير، لكن المعضلة هي من هو السياسي القادر، برصيد ثقة واحترام، أن يقنع الشعب بحقيقة الوضع والأهم أن يقنعه بلغة سهلة بعيدة عن الشعارات بأن المطلوب أن نتقدم جميعا لتحمل أعباء هذه المرحلة حتى نجتازها بنجاح. المواطن في تونس لم ير هذا أبدا بل عكسه حتى بات مقتنعا، عن حق أو باطل، أن كل السياسيين هم مجموعة من الانتهازيين النفعيين وأن أغلبهم من اللصوص والمحتالين، بل إن الرئيس السابق بن علي وجماعته قد لا يكونون أكثر سوءا من المسؤولين الحاليين!!!
في تونس نقاط ضوء أخرى بالتأكيد، خاصة على مستوى المؤسسات والقوانين والتداول السلمي على السلطة، لكنها ستتوارى أكثر وأكثر أمام هذا الذي يجري وقد تصبح هي بدورها مهددة. لا سمح الله.
٭ كاتب وإعلامي تونسي