هل يمكن إعادة بناء حزب «المؤتمر الشعبي العام» الذي أسّسه علي عبدالله صالح في العام 1982… أم أن هذا الحزب انتهى في اليوم الذي اغتال فيه الحوثيون الرئيس السابق في الرابع من ديسمبر الماضي؟
يمكن القول بكل راحة ضمير إن الحزب انتهى مع علي عبدالله صالح. لا حاجة إلى تناتش تركة ماتت بموت صاحبها. على الرغم من ذلك، يبقى اجتماع اللجنة العامة للمؤتمر في صنعاء حدثاً بحد ذاته، خصوصاً أن اللجنة كلّفت الشيخ صادق أمين أبوراس، الذي كان نائباً للرئيس، مهام رئيس الحزب في المرحلة الراهنة. إنّها محاولة واضحة للملمة الحزب في ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها صعبة وخطيرة في آن.
كان حزب «المؤتمر»، على الرغم من انتشاره في كل بقعة من بقاع اليمن مرتبطاً برجل يرمز إلى وجود يمن موحّد أوّلاً، وإلى أن صنعاء هي المركز الذي يدار منه هذا اليمن الموحّد. فضلاً عن ذلك، كان الحزب مرتبطاً بالسلطة والوصول إلى موقع فيها، خصوصاً منذ العام 1994 لدى فشل حرب الانفصال التي قادها الحزب الاشتراكي اليمني في تحقيق أهدافها.
لم يعد الحزب الاشتراكي اليمني، بعد حرب صيف العام 1994، قادراً على أن يكون شريكاً في السلطة التي أصبحت كلّها، تقريباً، في يد علي عبدالله صالح الذي اضطر بدوره الى البحث عن توازنات مختلفة تخدم طريقة ممارسته للسلطة. بدأ بالاعتماد على شريك جديد هو «التجمع اليمني للإصلاح». كان «الإصلاح» الى حدّ كبير واجهة للاخوان المسلمين، قبل أن يتحوّل بعد وفاة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، أواخر العام 2007 إلى التنظيم اليمني لحركة الاخوان.
بوفاة الشيخ عبدالله، هيمن الاخوان على «الإصلاح» على حساب الجناح القبلي في الحزب الذي كانت تغطيه عباءة الشيخ عبدالله بصفته زعيم حاشد، القبيلة التي كانت في أيّامه أكثر القبائل اليمنية تماسكاً.
لم يعد في الإمكان حالياً الحديث عن يمن موحّد. انتهى اليمن الموحّد قبل انتهاء الحوثيين من علي عبدالله صالح. أمّا صنعاء، فقد انتهى دورها، ليس كمدينة يمنية مهمّة، بل بصفة كونها المركز. حصل ذلك قبل أن يضع الحوثيون (أنصار الله) يدهم عليها. انتهت صنعاء كمركز إثر أحداث العام 2011 التي بدأت بانتفاضة شعبية قادها شبان متحمّسون بينهم من هو صادق فعلاً في ما يفعله. حاول الاخوان المسلمون خطف تلك الانتفاضة من منطلق انّهم الجهة المستفيدة من «الربيع العربي»، الذي اعتبروه ربيعهم. انتهت الانتفاضة الشعبية بقتال في شوارع صنعاء. انتقل الصراع الى داخل أسوار صنعاء بعدما كانت صنعاء تتحكّم باليمن كلّه. بلغ القتال حيّ الحصبة الذي كان فيه منزل الشيخ عبدالله… وما لبث الاخوان ان سعوا بعد ذلك الى اغتيال علي عبدالله صالح يوم الثالث من يونيو من تلك السنة في مسجد النهدين الواقع داخل دار الرئاسة.
من المفيد قليلاً العودة الى الماضي القريب لتأكيد أن الخريطة الداخلية لليمن تغيّرت جذرياً وان ما كان يصلح قبل 2011، لم يعد يصلح بعده. اليمن تغيّر بعد 2011 و«المؤتمر الشعبي العام» لم يعد له وجود بعد اغتيال علي عبدالله صالح في نهاية 2017. ما بقي الآن هو شخصيات كثيرة من مناطق مختلفة تنتمي إلى «المؤتمر». قسم من هذه الشخصيات انضمّ الى «الشرعية» اليمنية التي يمثلّها الرئيس الموقت عبد ربّه منصور هادي. هذه الشخصيات انشقّت باكراً عن علي عبدالله صالح. صحيح ان هناك شخصيات مؤتمرية عدّة كانت تحتلّ مواقع بارزة في عهد علي عبدالله صالح وانضمّت الى «الشرعية»، لكنّ الصحيح أيضاً أنّه لا توجد أيّ شخصية بين تلك التي انضمّت الى «الشرعية» يمكن وصفها بالشخصية الوطنية. بكلام أوضح لا توجد شخصية قادرة على لعب دور على الصعيد اليمني كلّه والمساهمة في التصدي للحوثيين الذين يبدو واضحاً أن لديهم مشروعهم الخاص الذي تطوّر مع مرور الوقت. اخذ هذا المشروع بعداً جديداً بعد سيطرتهم الكاملة على صنعاء في الواحد والعشرين من سبتمبر 2014 واعتبار علي عبدالله صالح مجرّد رهينة لديهم.
كان «أنصار الله» يعرفون جيّداً أنّ علي عبدالله صالح انتهى في فبراير 2012، يوم تسليمه السلطة الى نائبه عبدربّه منصور هادي. سارع عبد ربّه الى إعادة هيكلة الجيش بهدف حرمان الرئيس السابق من أيّ مواقع نفوذ داخله، خصوصاً في ما يخصّ الحرس الجمهوري. كان الحرس الجمهوري بقيادة العميد أحمد علي عبدالله صالح جيشاً بحد ذاته بني بطريقة مختلفة تتلاءم مع طريقة بناء الجيوش الحديثة، لكنّ أوّل ما فعله الرئيس الموقت كان إبعاد أحمد علي عن اليمن والسعي في الوقت ذاته الى إفقاد ألويته فعاليتها.
ليست «الشرعية» الطرف الوحيد الذي يسعى الى وضع «المؤتمر» تحت جناحه. استطاع الحوثيون جذب شخصيات مؤتمرية بصفة كونهم قوة الامر الواقع في صنعاء. لكنّ هناك شخصيات مهمّة في مقدّمها يحيى الراعي وصادق امين أبو راس وياسر العواضي تعمل من أجل إعادة الحياة الى «المؤتمر» بعيداً عن «الشرعية» و«انصار الله». لهذه الشخصيات وزنها. الراعي من ذمار حيث كرسي الزيدية وهو رئيس مجلس النوّاب. أما صادق أمين أبو راس، الذي كلّف رئاسة «المؤتمر»، فكان أصيب بجروح بليغة في محاولة الاغتيال التي استهدفت علي عبدالله صالح في 2011، وهو من الشيوخ الذين لديهم نفوذهم في الاوساط القبلية. ليس اختياره لهذا الموقع سوى محاولة انقاذ ما يمكن إنقاذه من جهة والحؤول دون أن يستخدم الحزب مطية لمن حاربوا علي عبدالله صالح وللذين قتلوه من جهة أخرى.
تبقى المشكلة الأساس في أن «المؤتمر» لم يعد ذلك الحزب المستفيد من إمكانات الدولة ومن شبكة العلاقات المعقّدة التي أقامها علي عبدالله صالح. فضلا عن ذلك، ان اليمن الذي عرفناه لم يعد موجوداً سوى في مخيّلة الذين يرفضون الاعتراف بأنّ اليمن صار يمناً آخر، خصوصاً في ظلّ الشرخ المذهبي الذي عمل الحوثيون على تعميقه وترسيخه. ما الذي يربط حالياً الشمال بالجنوب؟ ما الذي يربط الشمال بالوسط؟ ما الذي يربط حتّى ما كان يعرف، قبل الوحدة، بالمحافظات الجنوبية ببعضها البعض؟
عادت الحياة إلى «المؤتمر الشعبي العام» أم لم تعد، ليست تلك المسألة. المسألة بكلّ بساطة هل يمكن أن يتغيّر شيء على الأرض؟ من دون تغيير على الأرض يؤدي الى هزيمة للحوثيين، الذين يسيطرون حالياً على موارد الدولة في الشمال اليمني، ستستمرّ المأساة اليمنية طويلاُ.
في النهاية، لعب علي عبدالله صالح اللعبة الوحيدة التي يتقنها، وهي لعبة السلطة، لعبة البقاء فيها طويلاً ولعبة محاولة العودة إليها. كان «المؤتمر» من أدوات هذه اللعبة الخاصة بالرئيس السابق. ذهب علي عبدالله صالح ضحية هذه اللعبة التي أودت به الى الموت بطريقة مشرّفة. واجه القتلة بصدره العاري ولم يهرب منهم.
ولكن ماذا بعد ذلك؟ الأكيد أن ليس في الإمكان البناء على حزب لم يعد قائماً وان الحاجة الى توازن جديد للقوى. هل في استطاعة «الشرعية» بناء مثل هذا التوازن الذي يحتاج اوّل ما يحتاج الى افهام الحوثيين انّهم سيخرجون من صنعاء مثلما خرجوا من عدن؟