تجاوزت إيران موجة الاحتجاجات الأخيرة. ولم تكن هذه الموجة الأولى من نوعها. فقد سبقتها منذ تسعينات القرن الماضي إلى اليوم، حركات عدة على خلفيات اقتصادية. لكن النظام تمكن من خنقها بالقوة والعنف. ولم تشكل يومذاك تهديداً للنخب الحاكمة. ولا يعتد بتغريدات الرئيس دونالد ترامب وقدرتها على الفعل. فحتى أهل ديبلوماسيته لم يرق سقف موقفهم إلى أبعد من الأمل أو العمل على دفع طهران إلى تبديل سياساتها الخارجية، والداخلية في مجال حقوق الإنسان. ومثلهم كان موقف الأوروبيين المتريثين دائماً لإيمانهم بأن التغيير يأتي من الداخل. لكن الحركة الأخيرة تميزت عن سابقاتها، خصوصاً تلك التي شهدها صيف 2009، بأنها تمددت أفقياً. شملت مدناً ودساكر بعيدة من المركز، وانطلقت من نواحٍ تعد قواعد أساس للنظام. وكان لشبكات التواصل الاجتماعي بالطبع دور في انتشارها. تماماً كما حصل في ما سمي «الربيع العربي». وتركزت الشعارات على المطالب الاقتصادية والاجتماعية أساساً. وحتى المناداة بوقف سياسة التدخلات الخارجية في دول الجوار لم تصدر عن موقف أيديولوجي أو سياسي، بمقدار ما استدعاها شعور الفقراء بأن الإنفاق على قوى خارج الحدود من بين أسباب الهدر في حين هم يرزحون تحت خط الفقر. لكن هذه الصرخة تؤشر علناً وللمرة الأولى إلى أن ثمة اعتراضاً شعبياً على مبدأ «تصدير الثورة». وهذا ركن من أركانها أرساه الإمام الخميني. ولا يزال النظام يبرر انخراطه في حروب المنطقة بذرائع شتى أولاها الادعاء بحماية النظام. لذلك، ردد المسؤولون ويرددون أن هيمنتهم على عواصم عربية هي الدرع الواقية لأمن عاصمتهم وبلادهم وأركان حكمهم!
لكن العلامة الفارقة في التظاهرات الأخيرة هي هذه الجرأة في كسر حاجز الخوف. وتجلت بالتطاول على رموز الحكم و «الثورة» من المرشد إلى رئيس الجمهورية ورجال الدين. ولا شك في أن النظام نفسه بنخبه السياسية وصراعاتها المتصاعدة دفع المحتجين إلى تصعيد خطابهم حتى بلغ هذا المبلغ. فالحراك كان نتيجة عوامل كثيرة. ليس أولها سيادة القمع والخلل في النظام القضائي. كما أن تشريح الوضع الاقتصادي يعطي صورة وافية عن حال الفقر المنتشر في أوساط الإيرانيين الذين هللوا للاتفاق النووي ومنوا النفس بثماره. وجددوا للرئيس حسن روحاني ولاية ثانية، معلقين آمالاً عريضة عليه لإخراجهم من أزماتهم المتفاقمة. صحيح أن سياسة حكومته أتاحت نمواً معقولاً وخفضت التضخم. لكن البطالة اتسعت، خصوصاً في أوساط الشباب. وأدت السياسة الأميركية حيال موضوع العقوبات وتجديد بعضها على رغم قرار الرئيس باراك أوباما تجميدها بعد الاتفاق النووي، إلى عزوف الاستثمارات الخارجية عن السوق الإيرانية. كما أن الحركة التجارية التي أنعشها الاتفاق ذهبت وارداتها إلى المؤسسات الحكومية. وزاد الطين بلة أن روحاني نفسه تغنى برفع موازنة الدفاع! في حين رفعت حكومته أسعار الوقود وبعض السلع المدعومة. وأوقفت سياسة «توزيع الثروة» التي اعتمدها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد لإرضاء قاعدته في الأرياف. خلاصة القول إن بعض ما جنته الجمهورية من فوائد، تجارية خصوصاً، في السنتين الأخيرتين لم يوزع على الناس الذين لم يشعروا بتحسن أوضاعهم.
إلى كل هذه الدوافع للحراك، ثمة دور للصراع السياسي بين الأجنحة والنخب الحاكمة، وكلها بالطبع حريصة على بقاء النظام ما دام يوفر لها أو لمعظمها مكاسب لا يمكن التساهل بالتنازل عنها. هكذا، تركت آثارها الحملات المتواصلة للمحافظين على إدارة الرئيس روحاني. ومثلها الصراع الخفي على وراثة المرشد وما يرافقها من أحاديث عن فساد ومحسوبيات وتقاسم منافع وثروات، إضافة إلى تبادل معظم القوى السياسية الاتهامات بالفساد والتغول على الثروة والتحايل المصرفي، واستئثار «الحرس الثوري» بحصة الأسد، وهو الذراع الأساسية في تعامل إيران مع الخارج… كلها مهدت لموجة الاحتجاجات في أوساط شعب عبر عن رغبته منذ غياب الخميني في ترميم علاقاته مع الغرب، والولايات المتحدة خصوصاً. وقد عبر عن ذلك في مناسبات عدة، من أيام رئاسة هاشمي رفسنجاني، ثم محمد خاتمي إلى حسن روحاني. وقد شاعت مقولة كان يرددها أحد حلفاء طهران في الوسط الفلسطيني مفادها أن الشارع العربي يعادي الولايات المتحدة في حين حكوماته أو أنظمته تواليها، بينما الصورة في إيران معكوسة تماماً. فهنا يعادي النظام وحكمه أميركا في حين يرغب الشارع في صداقتها! من هنا، رأى مراقبون إيرانيون أن الحراك الأخير لم يعترض على التيارين المحافظ والمتشدد، بل تجاوز الإصلاحيين أيضاً. فقد خاب أمل الناس من هؤلاء أيضاً، وعكست الشعارات المعادية لمنظومة الدولة غضب الناس، مثلما عكست فشل هذه المنظومة ونخبها بجميع أطيافها. وهذا يشي بتغيير كبير في المجتمع الإيراني لا بد أن يتصاعد ويجد ترجمته في المستقبل، إذا استمر الجمود على حاله. وواصل الحكم نهج القمع خياراً لحل المشكلات، وتجاهل الرغبة الجامحة في تغيير السياسات الداخلية والخارجية.
قيل الكثير عن بداية انطلاق التحرك من مشهد. ولأنه افتقد قيادة بخلاف ما كانت عليه التظاهرات الضخمة عام 2009 التي تزعمها مير حسين موسوي ومهدي كروبي، أشارت الأصابع إلى دور لأحمدي نجاد الذي حرمه المرشد من الترشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ويحاكم مساعدوه السابقون بتهم فساد. وأشارت أيضاً إلى دور لقوى متشددة عادت إلى مواجهة الرئيس روحاني. وإذا صحت هذه الإشارات، فإن ذلك يعني أن رؤوساً كثيرة حاولت ركوب الموجة أو استغلالها، لكنها فوجئت حتماً بالعنف الذي رافقها وبتصعيد سقف مطالبها التي طاولت النظام للمرة الأولى، وبغياب الهتافات التي تندد بالغرب والاستكبار… وحتى إن صح أن الشرارات الأولى للاحتجاجات كانت مدبرة، وأن لا رأس لقيادة الحراك، فإن لجوء المسؤولين إلى «نظرية المؤامرة» بتوجيه اللوم إلى هذا الطرف الداخلي أو إلى «الشيطان» الأميركي، هو نوع من الهروب إلى أمام. ولا شيء يمنع تجدد الحراك في أي وقت في بلد تعداده أكثر من ثمانين مليوناً ويزخر بقوى ومكونات عرقية ومذهبية لا يروقها النظام وإن لجأ كالعادة إلى أنصار يملأون الشوارع لتوكيد شرعيته. ولا شيء يمنع مستقبلاً من بروز قيادات شابة عبرت عن شجاعة في الجهر بمطالبها.
صورة جديدة ومختلفة في إيران. ولم يعد يكفي الرئيس روحاني أن يقر بحق المواطنين في التظاهر والتعبير عن آرائهم. ولا يكفي وعده بالعمل مع مجلس الشورى لمعالجة المظالم الاقتصادية لمواطنيه. فالذين خرجوا في عدد كبير من المدن، وإن قلت أعدادهم عن المألوف في التجمعات الإيرانية، تجاوزوا انتقاد حكومة الإصلاحيين إلى المرشد، رأس النظام. والسؤال هل يستطيع روحاني وهو ابن هذا النظام أن يكسر هذا التحجر في «المنظومة العميقة» التي نشأت بعد «الثورة الإسلامية»؟ هل تمكنه قيادة تغيير حقيقي في السياستين الداخلية والخارجية لبلاده، ليحقق بعض آمال الذين رأوا إلى الاتفاق النووي بداية تحول الجمهورية من مرحلة «الثورة» إلى مرحلة الدولة؟ هل يستطيع رفع القبضة الأمنية وفتح الباب أمام الحريات الفردية وتوزيع الثروة على الجميع وإتاحة المجال أمام القطاع الخاص بدل تغول «الحرس» على الاقتصاد والمؤسسات والمشاريع الكبرى؟ على رغم التحسن البطيء والقليل الذي قدمه اقتصادياً، إلا أنه ظل قاصراً عن مواجهة مراكز القوى. وهو الآن أمام تحد كبير. وليس وحده أمام هذا التحدي. فكل أركان النظام ومؤسساته معنية. صحيح أن الحراك انتهى، ولكن من يمكنه بعد اليوم ضمان استقرار البلاد وترميم صورتها بعد الاحتجاجات الأخيرة التي كسرت المحظور؟ وأنى لحكومة روحاني الوسائل لتحريك عجلة الاقتصاد، في حين تواجه تحديات خارجية كثيرة، ليس أولها سيف التهديد بالعــقوبات وبطي صفحة الاتفاق النووي الذي يلوح به الرئيس ترامب الذي لا يتوقع الإيرانيون أنه القادر على فرض التغيير، وليس آخرها شبه إجماع دولي على وجوب تبديل سياسة التوسع والهيمنة في الشرق الأوسط وغيره؟ والخشية أن يلجأ النظام إلى الخارج كالعادة، من أجل تصدير أزمــاته الداخلـــية، ومــن أجل ممارسة مزيد من الضغوط على الداخل… وهذا المرجح، ولكن إلى متى؟