تنقل جريمة قتل الديبلوماسية البريطانية ريبيكا دايكس في لبنان الأسبوع الماضي، مسألة الاقتصاد الرقمي وشبكات تقديم الخدمات والتواصل الاجتماعي إلى مستوى جديد.
المتهم (البريء حتى يدان أمام محكمة عادلة) يعمل لشركة «أوبر» التي تواجه عدداً من الاحتجاجات والانتقادات في العديد من مناطق نشاطها. وهو يعمل «للشركة» وليس «فيها». وهذا فارق يستحق التوقف عنده. منذ ثمانينات القرن الماضي و «إصلاحات» رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، تنحو المؤسسات إلى التخفف من عبء الموظفين والعمال الدائمين وما يرتبوه على المؤسسات من التزامات كالتأمين والضمانات والتعويضات الصحية. واحد من المخارج التي اعتمدها القطاع الخاص كان التركيز على التعاقد الموقت واليومي وقابلتها الحكومات بتفكيك شبكات الأمان الاجتماعي وتقليص التقديمات العامة بذريعة تقليص الدولة والتخفيف من الأثقال التي يفرضها عليها «سكان كسالى» لا يعترفون بقيمة العمل والجهد الشخصي، على ما تقول أدبيات النيو ليبرالية التي تستهدف نقاط الضعف في نموذج دولة الرعاية.
تعمم هذا النموذج وصل إلى العديد من قطاعات الإنتاج منها، على سبيل المثال، وسائل الإعلام والصحف وأخيراً المواقع الإلكترونية، التي استبدلت قسماً كبيراً من محرريها وكتابها بـ «المزودين بالمضمون» الذين يتلقون بدلات على المساهمة وليس رواتب شهرية. هذه الطريقة ليست جديدة في عالم الصحافة والإعلام، لكنها تتفق أكبر اتفاق مع إعادة هيكلة المؤسسات لتُوائم عصر الشبكات والخدمات الرقمية.
وعلى غرار كل الخدمات التي تتوسل الشبكة الإلكترونية، سرعان ما تظهر سلبيات احتلال الأساليب الحديثة مكان القديمة. يصعب إحصاء عدد الاحتجاجات التي تواجهها «أوبر» على سبيل المثال في مناطق مختلفة من العالم بسبب ما يراه السائقون المعتمدون على الأساليب التقليدية، منافسة غير مشروعة من شركة لا تملك سيارة إجرة واحدة حيث تتخفّف من تكاليف الصيانة والوقود والمرائب وما شابه، وتكتفي ببرمجيات تقدم إلى السائقين المتعاملين معها «تنبيهاً» إلى وجود راكب قريب من مكان وجودهم. ثم تتشارك مع السائق الذي ينقل الراكب في البدل الذي يحصل عليه.
هذه الممارسة الحديثة الآخذة في الانتشار والقائمة على الوساطة بين طرفي العملية الاقتصادية (المنتج والمستهلك بلغة ما قبل الاقتصاد الشبكي)، تفرض نمطاً مبتكراً (وليس كل ابتكار إيجابياً) من التعامل. هي تقدم «الشيء من دون مضمونه»، على ما يقال. فيدعو موقع «فايسبوك» أصحاب الأعمال إلى دفع مبالغ معينة ليوسع لهم دائرة المشتركين القادرين على الاطلاع على منتجاتهم، من دون أن يقدم «فايسبوك» أي مضمون أو أي منتج. الأمر مشابه مع شركات التجزئة مثل «علي بابا» وغيرها. «أوبر» جزء من هذا العالم الذي يظهر تباعاً أخياره وأشراره على شكل ناجحين يجمعون ملايين الدولارات بفضل موجات لا نهائية من المشاهدين والمستخدمين، أو مجرمين يرتكبون الموبقات باستغلال ثغرات الأنظمة الرقمية. وتنتشر هذه الأيام جرائم سرقة الهويات ما يلقي بالضحايا في جحيم حقيقي من «الاختفاء» القسري الرقمي.
لا معنى للوم أي شركة تعمل ضمن القوانين القائمة ما دام المجتمع الذي قبل بهذا النوع من النشاط الاقتصادي يتأخر في تحديث قوانينه وأدوات تطبيقها. بل إنه حين يطبقها يخترع لها أدوات متخلّفة مثل القائمة بين ظهرانينا.