جادل كثيرون بنهاية «عصر الإخوان »، ودخول المنطقة مرحلة «ما بعد الإسلام السياسي»، واستند هؤلاء إلى شواهد صلبة من ساحات عربية وإسلامية عدة، أظهرت تراجع مكانة الجماعة، وتآكل دور الحركات الدينية، وتعزز هذا الاعتقاد بعد سلسلة الهزائم التي منيت بها «السلفية الجهادية» بمسمياتها المختلفة، وبات اليقين يسكن هؤلاء الخبراء والباحثين، في ضوء «الحملة المكارثيّة» التي تعرضت لها الجماعة في عدد من الدول العربية، والتحولات في المواقف الدولية منها، لكن تطورات الأسابيع القليلة الفائتة، تذهب بخلاف هذه التقديرات، وتشي بأن الجماعة ما زالت حاضرة، بل وما زالت قادرة على تجديد حضورها، وإبرام الصفقات والتسويات، وأنها أكثر من غيرها، ربما تكون مطلوبة ومرغوبة، حين يتصل الأمر بحاجة أطراف عديدة، لحركة الشارع، فهي الأقدر على تحريكه حتى الآن، برغم الضربات والنكسات العديدة التي ألحقت بها.
وربما يكون من حسن طالع الجماعة، أن يأتي إلى سدة الإدارة الأمريكية رئيس مثل دونالد ترامب، ونائب رئيس مثل مايك بنس، وكلاهما مدجج بالروايات الدينية والخرافات والأساطير، فالسياسات التي انتهجتها هذه الإدارة، شجعت وتشجع على «يقظة» الخطاب الديني واستنهاضه، بعد أن تعرض لما تعرض من صدمات وخيبات، وإذا بنا نعود إلى «الدرس الأول» الذي يتعلمه «اليساريون الشباب» عادة: أقصى اليمني يلتقي دائماً مع أقصى اليسار، والخطاب الديني اليميني ينتج ويغذي خطاباً دينياً مقابلاً، باعتبار ذلك سنة الحياة، وقاعدة صلبة ومجربة في العمل السياسي والاجتماعي … ولو كنت في مطرح الجماعة، لسجدت ركعتي شكر لله تعالى الذي يسر للجماعة ما يساعدها في تفكيك أطواق العزلة المضروبة حولها، وأعادها بقوة إلى الشوارع العربية والإسلامية.
في الأردن، عادت الجماعة إلى شوارع العاصمة والمدن الأردنية، وبصورة مرحب بها.
وفي فلسطين، وبعد أن بدا أن حركة حماس، تعاني مصاعب العودة إلى أحضان محورها الأصلي: «محور المقاومة والممانعة»، وأن ثمة استمهالا غير بريء، في إعطاء «الابن الضال» ضوءاً أخضر للعودة إلى منزل العائلة، تبدو أطراف هذا المحور، باستثناء دمشق حتى الآن، هي من يتهافت لاسترداد الحركة إلى «بيت الطاعة»، وربما بشروط لم تكن الحركة لتحلم بها، فـ «المحور» الذي طالما برر وجوده وتوسعه بالتزام «القضية المركزية الأولى» يجد نفسه عاجزاً عن فعل أي شيء جدي في مواجهة قرار ترامب وما بعده، من دون حركة حماس، والفصائل و«الانشقاقات» الصغيرة التي نبتت على الساحة الفلسطينية بفعل «المال الإيراني الحلال»، لم ترق في حجمها ونفوذها وأدائها، إلى ما تتمتع به حماس من ثقل وازن، ومن يراقب سلوك أطراف هذا المحور، يرى أن عادت للتعامل مع الحركة بوصفها «الابن المدلل»، بعد كانت تتعامل معها بوصفها «الابن الضال»، والأهم من كل هذا وذاك، أن هذه العودة تتم بأقل قدر من الكلفة والمعارضة والرفض من قبل بقية تيارات العمل السياسي والوطني، المصدومة بقرارات واشنطن وسياساتها.
على أن العلامة الأكثر دلالة على «عودة الجماعة» هي ما حصل في «القمة الثلاثية» التي انعقدت في الرياض قبل عدة أيام، وحضرها وليّا العهد السعودي والإماراتي مع رئيس التجمع اليمني للإصلاح وأمينه العام، حيث جرى البحث في «استراتيجية المرحلة الجديدة» في الحرب على «يمن ما بعد عبد الله صالح» … لقد كان مشهداً لافتاً حقاً، فبعد كل هذا العداء للجماعة، نرى لقاءً غير مسبوق، أحسب أن إخوان اليمن، لم يحلموا بمثله حتى في ذروة عزهم ومجدهم، ما يشي بأن للجماعة اليمنية، دوراً متعاظماً في حرب اليمن وسلامه.
في تونس والمغرب، نجت الحركات الإسلامية، ذات الجذور الإخوانية القريبة أو البعيدة، من «مكارثيّة» المشرق والخليج العربيين، وبدا أن «النهضة» و«العدالة والتنمية» قد انخرطا وتماهيا مع النظامين السياسيين في بلديهما، فالانتخابات المتعاقبة تأتيهما بما يكفي من الأصوات لإدامة الحضور وحفظ «الشرعية» بل وتولي سدة القيادة في البلاد، وإن بشروط وقواعد، لا تسمح بالهيمنة والتفرد و«التمكين».
خلاصة القول، إن الجماعة التي تكاد تُتم القرن الأول من عمرها، تعرضت خلالها لنكسات وانتصارات، تقدم وتراجع، تحالفات وانفراجات، عزلة وإقصاءات، تكاد تخرج من «شرنقة» جديدة، وجدت نفسها محاصرة في داخلها بعد سقوط نظامها في مصر في يونيو/يوليو 2013… وإن كان من الصعب اليوم، التكهن بالوجهة التي ستسلكها التطورات، والموقع الذي ستحتله الجماعة فيها، فإن الأمر المؤكد أن المنطقة العربية – وربما الإسلامية – ستعيش، وعليها أن تتعايش – مع هذه الجماعة لسنوات وعقود قادمة، فهي أتقنت فن الخروج من عنق الزجاجة، وتعلمت كيف تنبثق من بين الركام والرماد.