بين إعلان فلاديمير بوتين من سوتشي في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أثناء استقباله بشار الأسد، أن روسيا «تعوّل على مشاركة الأمم المتحدة بشكل فعال في المرحلة النهائية من التسوية في سورية»، وإعلانه من قاعدة حميميم العسكرية في سورية بعد أقل من 3 أسابيع، النصر على الإرهاب في بلاد الشام تمهيداً لسحب جزء من قواته، ثم قوله أمس إن «روسيا وسورية لن تتمكنا من حل أزمة اللاجئين بمفردهما، وهناك حاجة لجهود دولية»، يلعب الرئيس الروسي على حبال الأزمة السورية في ظل غموض البحث عن التسوية السياسية للحرب.
ولعل بوتين يتقصد إضافة الالتباسات إلى هذا الغموض الذي يحيط بالحاجة إلى إنهاء الحرب في سورية. وهو غموض تكرّس في إفشال مفاوضات جنيف8 بين الموفد الدولي ستيفان دي ميستورا ووفدي النظام والمعارضة، فعلى رغم أن القيصر كان يأمل بانتهاء تدخل قواته الذي بدأ في آخر شهر أيلول (سبتمبر) عام 2015 في الحرب، خلال بضعة أشهر، فإنه بات يبتدع أساليب التكيف مع امتداد القتال هناك، ويتقن المناورات التي تسمح له بأن يلائم تورطه فيها مع إطالة أمدها. مناسبة حديثه أمس للترويج لترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية في آذار (مارس) العام المقبل، كافية للإضاءة على أن هناك حيثيات داخلية تتعلق بالسياسة المحلية تلعب دوراً في المواقف التي أعلنها في الأسابيع الأخيرة، وتضيء على خلفيات المناورات التي يقوم بها في شأن الحرب في سورية.
طبعاً ليس بوتين وحده مَن لديه دوافع داخلية (تضاف إلى عوامل الصراع الأخرى)، في عملية إخضاع أزمات منطقتنا لمتطلبات السياسات المحلية في الدول الكبرى. فقرار دونالد ترامب الأخرق الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية خضع أيضاً لهذه الاعتبارات في توقيته، إذ أراد عبره إرضاء اللوبي الإسرائيلي في واشنطن كي يقف إلى جانبه، سواء في مواجهة التحقيقات حول الدعم الروسي الذي تلقاه عبر التدخل في الحرب الإلكترونية، أم في مواجهة تراجع شعبية حزبه الجمهوري في انتخابات حكام بعض الولايات التي استعادها الديموقراطيون، كمؤشر سلبي لما ستكون عليه نتائج الانتخابات النصفية لمجلسي الشيوخ والنواب في الولايات المتحدة خريف العام المقبل.
في الحالتين، أي الحرب في سورية ودور ترامب في ملاقاة اليمين الإسرائيلي في تصفية القضية الفلسطينية، دليل على الدرك الذي بلغه الضعف العربي في التأثير في السياسات الإقليمية والدولية وخضوع قضاياهم للمناورات الداخلية في الدول المؤثرة وتحولهم ألعوبة في أيدي الدول العظمى. وواحد من الأدلة على بئس حال المنظومة العربية أن الدولة الأضعف فيها، لبنان، باتت تتصدر الموقف المدافع عن الحق العربي بالقدس، وتدعو إلى مواجهة القرار الأميركي بخطوات عملية اقترحها الرئيس ميشال عون، يفترض بالدول القوية والمؤثرة في هذه المنظومة أن تتصدى لها. والفلسطينيون لم يجدوا إلا في تلك الدولة الصغيرة من يناصرهم قياساً إلى الأشقاء الكبار.
في حال سورية، تزيد مواقف بوتين المتناقضة من قناعة قلة تجرؤ على القول، على رغم كل المظاهر باقتراب الحل السياسي، إننا أمام التمهيد لمرحلة جديدة من الأزمة وليس التسوية، فليست المرة الأولى التي يعلن فيها الكرملين عن سحب قوات له من سورية. سبق أن فعل ذلك في ربيع عام 2016 حين أعاد العديد من المقاتلات والقاذفات ثم أعادها وضاعف العدد. وهو سبق أن دعا القوات الأجنبية إلى الانسحاب من الميدان السوري واتفق مع الأميركيين على أن تنكفئ قوات «الحرس الثوري» الإيراني والميليشيات التابعة له من الأراضي السورية، وتكرر الأمر بعد لقائه السريع مع ترامب، وجرى تسريب المعلومات عن قرب الانكفاء الإيراني بعد قمة سوتشي الروسية الإيرانية التركية، إلا أنه تبين أن الحاجة إلى وجود القوات الإيرانية في سورية تتفوق على الحاجة إلى المناورة الروسية بسحب جزء من القوة الجوية. بل على العكس، أخذ المسؤولون الروس يتحدثون عن أن المعني بانسحاب القوات الأجنبية هو انكفاء القوات الأميركية من الشمال السوري حيث تستظل حلفاءها في «قوات سورية الديموقراطية» (وتشكل مظلة دولية لهم في الوقت ذاته)، ومن منطقة التنف على الحدود العراقية السورية، لأن وجودها غير شرعي وليس بطلب من الحكومة السورية.
وأقصى المناورة في الموقف الروسي الذي لا يبشر ببدء العملية السياسية، هو تبرؤ بوتين من القدرة على إعادة النازحين، الذي كان أحد مبررات لإقامة مناطق خفض التصعيد في آستانة.
مقابل خذلان بعض القيادة الفلسطينية من دور واشنطن في السلام بعد قرارها الأخير، فإن الخيبة مصير الرهان على دور روسي في العملية السياسية في سورية.