على رغم الخطاب الإنساني العاقل لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فقد كان في القمة الإسلامية الاستثنائية في إسطنبول يتوكأ على سندين ضعيفين، داخل فلسطين وخارجها. ففي الداخل ينتظره زعيم «حماس» إسماعيل هنية مطالباً بوضوح باستيلاء «مقاومته» على الضفة والقدس في مقابل حضور متعثّر للسلطة في غزة. يريد هنية فرض الصوت الواحد والأيديولوجيا المتزمتة على فلسطينيي الداخل جميعاً ووضعهم في خيمة الكآبة التي وضع فيها أهل غزة حتى اختنقوا واضطرت «حماس» إلى التنصُّل من مسؤوليتها عن الاختناق. وخارج فلسطين يقدّم محمود عباس بلده كمجتمع يضم مسلمين ومسيحيين ويهوداً، وهو يتوكأ على عالم إسلامي مترامي الأطراف لا يزال، على رغم ما يحدث، يعتبر نفسه صديقاً للولايات المتحدة (ومعها أوروبا) في سياق القسمة الدولية بين العالم الحر والعالم الشيوعي التي لم تنته بعد، على رغم تفكك الاتحاد السوفياتي وتحرر أوروبا الشرقية، ويعزّز ذلك سعي موسكو إلى اعتبار روسيا الأرثوذكسية وريثاً طبيعياً لدولة لينين الشيوعية التي دخلت في ذمة التاريخ.
لا يستطيع عباس الخروج من سياق النضال السلمي الذي ارتضاه معظم الفلسطينيين وأكسبهم صداقات في العالم لم يكونوا ليحظوا بها لو تقدّموا في صورة مقاتلين يتعدون إسرائيل إلى قتال العالم كله، فيتشابهون بقصد أو من دون قصد مع إرهابيين ردوا على ديكتاتورية بشار الأسد بتدمير نسيج المجتمع وتحطيم مدنيّة أرساها السوريون عبر سنوات طويلة من العلم والعمل.
لكن السند الخارجي لمحمود عباس بدأ يتجاوز ضعفه مع رد الفعل على قرار الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فقد اتخذ قادة الدول الإسلامية موقفاً صلباً تجاه ترامب من دون الوصول إلى المقاطعة. وستبقى السلطة الفلسطينية منخرطة في عملية السلام لكنها تطلب راعياً غير الولايات المتحدة التي تخلّت عن دورها طواعية. وتنضم الدول الإسلامية إلى السلطة في دعوة من تبقى من دول لم تعترف بدولة فلسطين إلى الاعتراف، علماً أن عدد المعترفين كبير جداً وأن قرار ترامب لم يحظ بتأييد أحد سوى الفيليبين وكلام مراوغ من رئيس تشيخيا: انظر إلى فشل زيارة اليميني المتطرف بنيامين نتانياهو للحصول على اعتراف أوروبي بالقدس عاصمة لإسرائيل.
لا تزال القضية الفلسطينية معياراً لنهج السلام أو نهج الحرب، ويغلب النهج الأول على الثاني حالياً، على رغم طموحات إسماعيل هنية بتخريب النهضة الوطنية والاجتماعية والثقافية في الضفة والقدس كما فعل في غزة. ويجد هنية تشجيعاً من إيران الزاحفة على المشرق العربي حاملة أفكاراً إسلامية متطرفة تعبّر عن نفسها بالشعار العدواني «الموت لأميركا».
ومع التظاهرات السلمية ضد قرار ترامب التي تتواصل في فلسطين وبلدان عربية وأجنبية، فالجهد الديبلوماسي والقانوني والثقافي مطلوب استمراره في هذا الشأن، وللفلسطينيين بنخبهم الوطنية وصداقاتهم العربية والدولية خبرة مهمة في هذا المجال. سوف تقام دعاوى في الولايات المتحدة وفي الأمم المتحدة وهيئات دولية أخرى ضد قرار ترامب، والمطلوب من الدول التي حضرت قمة إسطنبول مزيد من الضغط على واشنطن، لكونها تشكّل معظم العالم الحليف للولايات المتحدة، ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وما بعده. وعلى قصيري النظر في الكونغرس والبيت الأبيض أن يصغوا إلى خبرة البنتاغون، فخسارة واشنطن أصدقاءها مسلمي العالم لن تبقي لها صديقاً، خصوصاً أن دولاً كبرى ومتوسطة تتهيأ للانقضاض على دورها المركزي العالمي، ونذكر على سبيل المثال الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وأميركا اللاتينية، وستلحق بها بالضرورة اليابان وكوريا والهند.
دونالد ترامب، الضيق الأفق المعبّر عن حساسية «محلية» لا تليق بقائد دولة عظمى، يجب أن يلمس نتيجة النضال السلمي للدول الإسلامية أنه أخطأ في شأن القدس وشاركه في الخطأ بنيامين نتانياهو الذي ترفض سلوكه النُّخب الإسرائيلية ونُخب اليهود في العالم.
ولن يترك العرب والمسلمون وأصدقاؤهم دونالد ترامب ينفخ في أبواق الحروب الدينية التي تجاوزها العالم منذ عصر النهضة.
