نون والقلم

مصطفى زين يكتب: تحولات أردوغان

ليس من الحكمة التمسك بقول «لا» في العمل السياسي. عبارة تبدو مستلة من كتاب «الأمير» لمكيافيلي، لكن قائلها هو أردوغان رداً على سؤال إذا كان مستعداً للقاء الأسد. فما الذي تغير خلال السنوات الست الماضية عندما كان الرئيس التركي أكثر المتشددين في رفض بقاء الأسد على رأس السلطة في دمشق، لا في المرحلة الانتقالية ولا في ما بعدها، بعدما استيقظت لديه كل أحلام السلاطين، ففتح الحدود أمام المسلحين الوافدين من مختلف الأنحاء، فضلاً عن السوريين المعارضين، وأقام مراكز تدريب وتسليح، واستضاف مؤتمرات المعارضة وداعميها الدوليين، وأصبحت له الكلمة الفصل في كل شاردة وواردة؟ وهكذا تحوّل أردوغان من شريك للأسد في حلم «فتح البحار الأربعة» على بعضها والتوجه إلى الشرق، من دون معاداة الغرب، إلى ألدّ أعدائه وأكثرهم فاعلية في محاولات إطاحته.

اليوم يراجع الرئيس- السلطان سياساته ولن يقول «لا» للقاء العدو- الصديق، والتفاهم على ترتيبات ما بعد الحرب في سورية، وقد يجد فيه حليفاً قوياً ضد طموح الأقليات في البلدين، بعد أن يثبت حضوره في ما كانت إسطنبول تريد ضمه إليها من أراض ومدن سورية في عشرينات القرن الماضي، وتخلت عنها بضغوط فرنسية وبريطانية، مكتفية بلواء الإسكندرون، من دون أن تتخلى عن حلم العودة حتى لو أدى الأمر إلى تدمير ما تريد ضمه، مثلما حصل في حلب وفي مدن أخرى، برضا أميركي وأوروبي.

نستطيع أن نحدد ثلاثة متغيرات دفعت أردوغان إلى تغيير موقفه من الأسد ومن الأزمة السورية:

– المتغير الأول يتمثل في دخول روسيا عسكرياً وديبلوماسياً على خط الأزمة. فمنذ اتخذت موسكو قرارها بالتدخل العسكري والسياسي، فتحت المجال في الوقت نفسه أمام تركيا كي تكون شريكاً في ترتيبات ما بعد الحرب. وبعد أن تبين لأنقرة أنها لا تستطيع مواجهة الكرملين على الأرض، حتى لو رغبت في ذلك، لم يعد أمام أردوغان سوى الإذعان للواقع والسير والتطلع إلى تسوية تؤمن لبلاده نفوذاً في ما بعد الحرب، معتمدة على قوات سورية «معتدلة» موالية لها، وعلى إمكان التفاهم مع موسكو وطهران، صاحبتي اليد العليا لضمان هذا النفوذ، حتى أصبح هذا الثلاثي يشكل تحالفاً يأخذ على عاتقه إيجاد تسوية سياسية. وما القمة الأخيرة التي عقدها الرؤساء الثلاثة في سوتشي الروسية، بعد لقاء بوتين الأسد، سوى مؤشر إلى تفاهمهم على الخطوط العريضة التي وضعها خبراؤهم لمستقبل سورية.

– المتغير الثاني داخلي: وجد أردوغان نفسه في مواجهة معارضة داخلية قوية تهدد وحدة تركيا. فالأكراد الذين يتلقون الدعم من أميركا في سورية، هم جزء من «حزب العمال الكردستاني» الذي يخوض تمرداً ضد أنقرة منذ ثمانينات القرن الماضي راح ضحيته عشرات الآلاف من الأكراد. ووجد هذا الحزب في الحروب السورية والفوضى العراقية فرصة ذهبية لمزيد من التسلح، والكثير من الحرية في التنقل عبر الحدود ونسج التحالفات مع المسلحين الإرهابيين «والمعتدلين»، وأصبح يشكل خطراً على أنقرة أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً أن الأقليات الأخرى (العلويون مثلاً) بدأت تتساءل عن مصيرها بعد هذه الفوضى التي تضرب الشرق الأوسط وستمتد إلى داخل تركيا.

– المتغير الثالث لا يقل أهمية عما سبق: وجد أردوغان نفسه معزولاً في الإقليم، بعدما فشلت مغامرات «الإخوان المسلمين» في مصر وفي تنظيم الصفوف لخوض الحرب في سورية. وكان الرجل يراهن على هذا الحزب وقواه في الداخل السوري لتغيير كل المعادلات لمصلحته. أما خارجياً فوجد نفسه في مواجهة الولايات المتحدة التي أصرت على دعم الأكراد. ووجد أن الحليف الآخر، أي الاتحاد الأوروبي، يقف مع واشنطن، ويطالبه بتحقيق المطالب الكردية وبوقف الاعتقالات التعسفية للآلاف بتهمة المشاركة في الانقلاب عليه. أما الحلف الأطلسي فلم يظهر عنصريته وعداءه لأنقرة كما فعل قبل أسبوعين حين وضع قادته صورتي أردوغان وأتاتورك هدفاً لمناورات بالذخيرة الحية في النروج، فرفض الاعتذار وقال: «هناك أخطاء لا يرتكبها مجانين بل أنذال».

«الأنذال» هؤلاء هم حلفاء أردوغان على جانبي الأطلسي، ما زالوا ينظرون إليه وريثاً لأعدائهم التاريخيين. وما زال هو يعيش تلك الحقبة. ولو كان في استطاعتهم التخلي عنه لما تأخروا، لكنهم يراهنون على تغييرات في الداخل، وما دعمهم الأكراد سوى محاولة لثنيه عن التوجه نحو روسيا وإيران، لفك عزلته الداخلية والخارجية.

 

نقلا عن الحياة اللندنية 

 

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button