قد تكون صدفة ولكن دعونا نستعرضها معا ونفكر: قمة فاس العربية الأولى في المغرب في تشرين الثاني/نوفمبر 1981 تبحث «مبادرة الأمير فهد» ولي العهد السعودي آنذاك لتسوية للقضية الفلسطينية التي سبق أن أعلنها في آب/أغسطس من نفس العام، ثم تنعقد قمة عربية ثانية في فاس في أيلول/سبتمبر 1982 وقد صار فهد ملكا لتتبنى المشروع الذي أصبح يسمى بـــ «مبادرة فاس العربية».
في السابع عشر من شباط/فبراير 2002، يكتب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان ما سمي بمبادرة الأمير عبد الله قدمها ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز لتتحول في قمة بيروت العربية في آذار/مارس من نفس العام إلى «مبادرة السلام العربية» التي ظلت على الطاولة بلا حراك منذ ذلك حين حتى بعدما صار عبد الله ملكا في 2005 وإلى أن توفاه الله مطلع 2015.
الآن تحرك سعودي مع الأمريكيين وتحديدا بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وجاريد كوشنير صهر الرئيس ترامب لبلورة تصور جديد للتسوية قد يتضح أكثر وينضج بعد أن يصير بن سلمان ملكا.
الرابط بين هذه المبادرات الثلاث هي أن هؤلاء المتبرعين بها، أو المتحمسين لها، أو الساعين لتسويقها، لم يكونوا ساعتها ملوكا في السعودية التي تقف وراء هذه المبادرات جميعها، علما بأن ما حصل لمبادرة فهد ما كان يفترض أن تشجع عبد الله على خوض غمار تجربة جديدة، وما حصل لهما معا ما كان يفترض أن تشجع بن سلمان على أن يفعلها من جديد حتى وإن كان من باب المشاركة والمآزرة في دفع التصور الأمريكي الجديد وليس من باب من يـُـــصور على أنه مطلقه الرسمي.
الراصد لمضمون هذه المبادرات، مع أن الأخيرة ليست معلنة رسميا ولكن ما تسرب منها إلى حد الآن يشي بالقادم، سيكتشف سريعا حجم التراجع العربي الرسمي في كل واحدة مقارنة بتلك التي سبقتها مع أن الطرف الآخر لم يقدم شيئا على الإطلاق. العكس هو الصحيح: كلما صعد الخط البياني لشراسة الاحتلال الإسرائيلي، صعد معه الخط البياني للاستعداد العربي للتنازلات وبالتالي نزل خط ما يمكن أن يحصل عليه الطرف الفلسطيني حتى وإن بصم عليه بالعشرة.
لنر ذلك عمليا وبالملموس:
مبادرة فهد تضمنت لأول مرة اعترافا ضمنيا بوجود إسرائيل وحق كافة دول المنطقة في العيش بسلام حيث دعت المبادرة، التي اعتمدت بشكل كبير على قرار مجلس الأمن رقم 242، إلى إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. في البداية، اصطدمت المبادرة في قمة فاس الأولى بمعارضة من مثل سوريا والجزائر وليبيا والعراق إضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي طالبت بحذف البند السابع من الخطة الذي يتحدث عن اعتراف ضمني بإسرائيل.
ما الذي حصل بعد ذلك؟ إجتياح إسرائيلي كبير للبنان في حزيران/يونيو 1982 وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من هناك بعد حصار مرير لبيروت.
مبادرة عبد الله التي تحولت في قمة بيروت إلى مشروع سلام عربي، عرضت على إسرائيل تطبيعا كاملا مع كل الدول العربية مقابل سلام كامل وإعادة الأراضي المحتلة عام 1967 وقيام دولة فلسطينية. ما الذي حصل بعد هذه القمة التي لم يحضرها ياسر عرفات المحاصر في رام الله؟؟ اجتياح كامل للأراضي الفلسطينية واسترداد لكل المناطق التي سلمت للسلطة الفلسطينية مع تشديد الخناق على عرفات إلى حين استشهاده.
ما يجري من حديث غائم عن «صفقة القرن» يشير إلى أن القادم ليس أكثر من إضفاء الشرعية على الوضع القائم حاليا بمعنى دولة فلسطينية وما هي بدولة لأنها تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات السيادة على الأقل من حيث وحدة أراضيها وتواصلها، بقاء المستوطنات الإسرائيلية تحت السيادة الإسرائيلية بحيث لا قيمة لكل هذه الأطنان من القرارات الدولية التي تراها غير شرعية وتطالب بإزالتها، إبقاء غور نهرالأردن تحت السيادة الإسرائيلية بحيث لا مجال لأي تواصل مباشر بين ضفتي نهر الأردن بين المملكة الأردنية والدولة الفلسطينية الهجينة. ومقابل هذا العرض الهزيل الذي لا يلبي لا ما جاء في مبادرة فهد ولا عبد الله، لا قبل اكتسابهما الشرعية العربية الرسمية ولا حتى بعده، سيكون على العرب جميعا تطبيع علاقاتهما مع إسرائيل وإعلان إنهاء النزاع، وهي أشياء بدأت فعلا عمليا حتى قبل تتويج المسعى الجديد وإعلانه رسميا.
ما الذي سيحصل الآن؟؟ إما أن تقبل القيادة الفلسطينية بهذا العرض الهزيل والمهين وإما سيتم شطبها بالكامل لتحل محلها قيادة، جاهزة من الآن، مستعدة لتمرير كل ذلك وزيادة.
ما سرب إلى الآن يفيد بأن الرئيس محمود عباس رفض ذلك عندما ما قدم له سعوديا بصيغة هي أقرب للتحذير، كما أن «حماس» التي تتعرض لتشويه منظم منذ فترة، من السعودية وحلفائها الخليجيين، مدعوة لقبول ذلك إن هي أرادت تجنب ضربة قاصمة لها بعد وصمها المتكرر بالإرهاب لترهيبها.
ربنا يستر من الآتي.
٭ كاتب وإعلامي تونسي