يشهد العالم عادة – بعد أن تهزه أحداث درامية – الدخول في مرحلة من إعادة ترتيب أولوياته، وصياغة متطورة من الفكر والسياسة والاستراتيجية. حدث هذا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية من انقلاب التحالف بين الغرب والاتحاد السوفييتي، إلى صراع استمر لحوالي الخمسين عاماً، في أجواء ما عرف بالحرب الباردة.
وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية، سعى صنّاع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة لإيجاد نظام عالمي تحت القيادة الأمريكية، يقوم على تفوّق قوتها السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، وعلى أساس القيم والمبادئ الأمريكية.
وعقب نهاية الحرب الباردة – والتفكك المفاجئ للاتحاد السوفييتي – عاشت أمريكا فترة من التوهم بأنها صارت القوة العظمى الوحيدة، إلى مدى ليس له حدود، وأن العالم لن يعرف منافساً لها. وهو ما دفعها إلى التشبّث في سياستها الخارجية، بمفهوم التفوّق والهيمنة العالمية. كان لا بد بعد انتهاء الحرب الباردة من إجراء تغييرات في الفكر السياسي الأمريكي، وفق ما أعلنه الرئيس جورج بوش الأب، عن بدء الدخول في نظام دولي جديد.
لكن طول سنوات الاعتياد لدى الأمريكيين، على مفهوم القرن الأمريكي، وقيادة أمريكا للعالم، كان قد خلق حالة من التضارب الفكري داخل الولايات المتحدة، بين قطاعات لا تتصور تنازل أمريكا عن وضعها العالمي الفريد، في مواجهة مدارس أخرى تستوعب ما يجري في العالم من تغييرات، تفرض على أمريكا القبول بأن النظام العالمي الجديد، سيقوم على تعددية القوى التي تدير هذا النظام، بديلاً عن تربّع قوة عظمى وحيدة على قمته.
وبالرغم من أن هذا الانقسام الداخلي استغرق وقتاً طويلاً نسبياً، إلا أن تداعيات تحوّلات ما بعد الحرب الباردة، أخذت تفرض ذاتها على النظام الدولي. أبرزها الصعود الاقتصادي، والاستراتيجي للصين، وصعود قوى أخرى بعد قفزاتها الاقتصادية، لتشكل معاً منافساً جديداً للولايات المتحدة، تملك مفاتيح التقدّم الاقتصادي وتتمسك بهويتها الثقافية، وتسعى لفرض تواجدها ونفوذها السياسي إقليمياً ودولياً.
حدث هذا بينما يرافقه تغيير متسارع داخل أمريكا وخارجها، تتقلّص فيه قدراتها القديمة، على الانفراد بقيادة النظام الدولي، وبسط نفوذها عليه، وإدراكها أن هذا النظام لا بد أن يقوم على المشاركة، وأن دعم اقتصاد أمريكا وازدهاره، صار يحتاج إلى تبادلية العلاقة، والمنافع، والمصالح مع الآخرين.
هذه الحقيقة تحديداً، توقّف أمامها مفكرون وسياسيون أمريكيون، وجدوا أن شعار أمريكا أولاً، يصطدم بالتحوّلات الجارية في العالم، لأنها قبل أن تكون هي أولاً، فإنها تحتاج إلى شراكة تراعي كون الآخرين لهم أيضاً مطالبهم أولاً.
وينبغي ألا يغيب ذلك عن بالها، في حقبة زمنية كل شيء فيها يتغير. ثم إن أمريكا فقدت في إطار تحوّلات ما بعد الحرب الباردة، خاصية اليقين، بشأن ما سيجري في العالم، والذي كانت الأساس الذي تعتمد عليه استراتيجيتها، التي طالت إلى خمسين عاماً من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فهي الآن – وحسب ما واجهته من أحداث كبرى في آسيا، والشرق الأوسط، وروسيا، صارت فاقدة لليقين. وتجد نفسها من وقت إلى آخر، تفاجأ بأحداث لا تستطيع أن تسيطر على مساراتها بعكس ما كان يحدث في الماضي، وهو ما انعكس على قراراتها السياسية، والتي عانت الارتباك بقوة، في عهد أوباما بالتحديد. إلى الدرجة التي دفعت عدداً ليس بالقليل من المحللين الأمريكيين، لوصف أوباما بأنه يفتقد الرؤية الاستراتيجية الشاملة.
من ثم تتابعت نصائح الخبراء والمختصين بالسياسة الخارجية، لترامب، بعدم الانفراد بالقرار فيما يتعلّق بالقضايا السياسية الحيوية، وأنه يحتاج إلى من يوصفون بمخزون العقول، ممن لديهم الخبرات المتراكمة، التي تساعدهم على تشخيص واقع هذه القضايا، وما ينتظر أن تسفر عنه من نتائج وتأثيرات، سواء في محيطها الإقليمي، أو في الأثر بعيد المدى في الولايات المتحدة ومصالحها.
المشكلة أن الولايات المتحدة، لا تزال بحكم فعاليات التراث، والتاريخ، وعقيدة التفوّق، والقيادة العالمية، يتجاذبها تياران، أحدهما يرى اتباع استراتيجية تحفظ لأمريكا مركزها القيادي، والتيار الثاني مقتنع بأن ذلك ليس في صالح الولايات المتحدة، لأن العالم يتغيّر، ليس من خلال إمساكها بموازين التغيير، وإنما لأن مسببات التغيير تتعلّق بطبيعة العصر نفسه، والذي يختلف عن سابقه، وأنه هو الذي سيفرض على أمريكا التغيير، وليس العكس.