أكثر من سبع سنوات عجاف، مرت منذ انطلق ما بات معروفاً بالربيع العربي. وكانت أكلافه سقوط نظم، وضياع أوطان، ومئات الألوف من القتلى والجرحى، وخراب ودمار شامل لمدن عربية عريقة. والأخطر من كل ذلك، هو الانهيار الاجتماعي، وإعادة بعث الهويات ما قبل التاريخية، طائفية وعشائرية وقبلية، وعودة أنماط ما قبل تشكل الدولة الحديثة، من مافيات وفتوّات ووجاهات، يفترض أن الواقع التاريخي قد تجاوزها.
وكان ذلك كله ثمن مرحلة الفوضى في العلاقات الدولية، وتعبيراً عن اختلال موازين القوة. وللأسف كان قدر هذه الأمة أن تدفع من وجودها ودمها ثمناً لمتغيرات وتحولات كونية، تجعلنا في القلب من أحداثها، مع أننا عمليا بالكاد نكون على هوامشها وحوافها.
وللأسف أيضاً، يتكرر مشهد العجز العربي، عن كل انعطافة، وتغير في موازين القوة الدولية. كان ذلك واقع الحال أثناء، وبعد الحربين الكونيتين: الأولى والثانية: اتفاقية سايكس – بيكو، ووعد بلفور، وهيمنة الاستعمار الغربي، وتضاعف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، التي انتهت بقيام الوجود «الإسرائيلي» الغاصب، عام 1948م، وتعطل مشاريع النمو الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وانقسام الوطن العربي، إلى تكتلات وأحلاف تتبع هذا الطرف أو ذاك، من اللاعبين الكبار، وصانعي القرارات الأممية.
وغير ذلك كلف الدم التي سقط بغزارة، من أجل إلحاق الهزيمة بالاستعمار. في الجزائر وحدها التي احتفلت هذه الأيام بذكرى استقلالها، تجاوزت قرابين الحرية والاستقلال، أكثر من مليون شهيد.
وكانت تداعيات الأزمة هي في الواقع استمرار لها بصيغ أخرى، انتهت بشيوع الفساد والاستبداد، والعجز عن مواجهة التحديات المصيرية التي مرت بها الأمة.
نحن الآن على بوابة انتقال سياسي عالمي، وتغيرات في موازين القوة، سينتج عنها، كما تشي كل المؤشرات، انبثاق نظام دولي جديد، يبدو أننا لم نستعد له، ولم نهيئ له مستلزماته. ولن نتمكن من تحقيق ذلك إلا بتجاوز الانكسارات النفسية والاجتماعية، ومعالجة ذيول الخراب الذي ألحقه بنا الخريف العربي، أو الإعصار الغاضب.
كانت هذه المسائل موضع سؤال من صديقة عزيزة، في مواقع التواصل الاجتماعي. كيف نعزز منظومة القيم الوطنية، في البلدان العربية، التي مر بها إعصار خريف الغضب؟! والسؤال، مهم وحيوي، رغم أنه يطرح مبكرا، وحقول الألغام لا تزال كما هي، يبدو أن أوان تفكيكها سيطول ويطول، لكن ذلك لا يقلل من أهمية طرح السؤال. فقد كانت أسئلتنا في الغالب تأتي متأخرة، فلا ضير في أن نبكر هذه المرة.
إن قراءة المستقبل، أثناء اشتعال الحرائق، ستكون مملوءة بشحنات عاطفية، وستكون شئنا أم أبينا، متحيزة لهذا الفريق أو ذاك، بما يفرغها من الحياد الذي هو شرط تقديم الإجابة العلمية. يجيبك آخرون، أن الحياد في هذه الحالة هو انحياز، لأنه موقف من حوادث تتداعى بسرعة تفوق السرعة الضوئية، ولا يمكن لأحد أن يسلم من جرفها له.
هل سنستعيد منظومة قيمنا القديمة، في تقديم أجوبة عن ملامح المستقبل؟ إذا كان الجواب بنعم، فإننا نعيد استنساخ تجارب ثبت فشلها. وإن كان الجواب بلا، فمن أين نبدأ.
ربما تسعفنا العلوم السياسية في تقديم أجوبة أولية، تتعلق بماهية وقياس المفاهيم التي نحن بحاجة إلى أخذها في الاعتبار، عند صياغة استراتيجية، ما بعد تجاوز الأزمة، في مفاعيلها الحركية اليومية، المعبدة بالدم، والانتقال بها إلى أشكال أخرى، أقل حدة، وربما أقل مرارة.
هل تكون استعادة القيم الوطنية، هي تكريس التخلف، ومضاهاة أنظمة الفساد والاستبداد، بأنظمة على شاكلتها، بما يعني تكريس الأزمة بأشكال أخرى، أم أن المطلوب هو إبداع جديد، يضع الوطن، في سياق تقاطع الجغرافيا والتاريخ، وما له بإعادة صياغة الهوية الوطنية، بما يجعل منها متاريس، ليس للفصل بين الأنا والأخر، ولكن للحيلولة دون انهيار وتفتت آخر، لكياناتنا الوطنية، التي للأسف لم تكن في الأصل من صنعنا، أو اختيارنا؟
إذا كان الوطن، بحدود ما نعرف، وأيضاً بحدود ما تجسده العلوم السياسية، هو تقاطع الجغرافيا والتاريخ. فهل كان هذا الوطن قائماً بالفعل، بأبعاده النفسية واللغوية والاجتماعية والسياسية، بالفعل؟! وإذا كان ذلك متحققاً فكيف أنهار عند أول هزة، ومواجهة حقيقية بين مكوناته؟! وهل كانت هناك فعلاً هوية بعينها، جامعة لهذه الأوطان بمكونات. ولماذا تاهت هذه الهوية في خضم الإعصار، لتنهض مجدداً الهويات منا قبل التاريخية؟
واقع الحال، أن القانون التاريخي، ليس في أمتنا فحسب، بل في جميع أمم الأرض، قد أكد وجود هويات صغرى، تطفح أثناء الأزمات، وتتراجع أثناء مراحل النهوض. بما يعني أن مهمتنا الأساسية، فيما بعد انجلاء الإعصار، هي إيجاد آليات عملية لتغليب الهوية الجامعة: التي هي الانتماء للوطن، وعدم التنكر للهويات الصغرى، بل اعتبارها ضمن عوامل الإثراء والتخصيب، للهوية الجامعة، وجزءاً من التنوع، في فولكلور الوطن.
وبشكل براجماتي، فإن المطلوب أولاً بعد انجلاء غبار الأزمة، هو الاهتمام أولاً بما ينفع الناس. فكل الشعارات وما يطلق عليه مجازاً بالاستراتيجيات، تتراجع أمام الجوع والفقر، ومقابلة استحقاقات الناس، هي المقدمة اللازمة، لإشاعة الأمن والاستقرار، وبناء الدولة العصرية، بناء يربط جدلياً بين الاجتماع والسياسة.
هذه مجموعة من التساؤلات المهمة، في هذا المنعطف من المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، بين أيدي المفكرين والمثقفين والمهتمين بالشأن العام، وهي بحاجة ماسة إلى مزيد من القراءة والتفكيك في أحاديث قادمة.