في خطابين متتاليين في أقل من أسبوع وظف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، كل مهاراته الخطابية لحرف انتباه اللبنانيين عن القضية الرئيسة التي فرضت استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري. يريد أن يجعل من عودة الرئيس المستقيل القضية الرئيسة، وليس حقيقة أنه هو تحديداً من قوّض التسوية التي على أساسها قدم الحريري تنازلاً كبيراً بترشيح ميشال عون رئيساً للجمهورية وأن يتولى هو رئاسة الحكومة. كانت تسوية، أو هكذا يُفترض، لحماية الدولة ولإخراج لبنان من أتون الصراعات الإقليمية، خصوصاً الحرب الأهلية السورية، بعد شغور رئاسي استمر أكثر من سنتين. وهو شغور فرضته إيران من خلال الحزب دعماً للجنرال عون بعدم قبول أي مرشح آخر للرئاسة، بما في ذلك النائب سليمان فرنجية (صديق عائلة الأسد وحليف آخر لحزب الله) الذي سبق للحريري أن رشحه في تنازل آخر.
استمرت تنازلات رئيس الحكومة بعد انطلاق العهد الجديد بما في ذلك الموافقة على إقالة كل القضاة اللبنانيين الذين دعموا المحكمة الدولية الخاصة باغتيال والده، رفيق الحريري. كان نصر الله يصر على إقالة هؤلاء القضاة منذ رئاسة نجيب ميقاتي مروراً برئاسة تمام سلام. لماذا؟ لأن حزبه هو المتهم الرئيس في هذه المحكمة.
المفارقة أن سعد الحريري، وريث المغدور، هو من وافق على إقالة القضاة. حتى هذا لم يشفع لرئيس حكومة العهد الجديد. تنازلات الحريري بالنسبة إلى الحزب ليست تضحيات لانتشال الدولة من الانهيار، والحفاظ على هويتها العربية. هي تنازلات من طرف ضعيف لطرف منتصر في صراع ترى إيران أننا لم نقترب من خواتيمه بعد. مأزق لبنان، ومعه كل العرب أن حزب الله ذراع إيرانية في هذا الصراع. وهذا ما يردده نصر الله نفسه في مطولاته الخطابية من أنه، ومعه الحزب، يعمل تحت راية «ولاية الفقيه»، وأنه فخور بذلك. الأسوأ من ذلك أن الحزب عضو في الحكومة التي يستخدمها لتشريع دوره الإقليمي في خدمة إيران، وللتغطية على أنه بات دولة داخل الدولة بجيشه وإعلامه ومخابراته وشبكة اتصالاته، وبموازنته لتمويل كل ذلك التي تأتيه من إيران، كما يقول نصر الله. مبعث السخرية أن كل ذلك داخل دولة لا تنفك عن القول بأنها تنأى بنفسها عن صراعات المنطقة. والنتيجة التسوية في نظر الحزب وأمينه العام هي غطاء لبناني للاستمرار في دوره الإقليمي كذراع إيرانية في المنطقة. انهيار التسوية باستقالة الحريري لم يرفع هذا الغطاء وحسب. بل كشف أن تواطؤ نصر الله مع عون على التسوية هو الذي أدى إلى انهيارها. من هنا سارع نصر الله بخطابيه المذكورين لأخذ انتباه اللبنانيين إلى مكان آخر. إلى ضرورة عودة الحريري، والعودة إلى إسطوانة إسرائيل والمقاومة. الحديث عن تحييد لبنان كان بالنسبة إلى الأمين العام ولا يزال مجرد حديث يتلهى به الضعفاء.
منذ البداية كان قبول الحريري بالتسوية مغامرة. صحيح أن المغامرة جزء من فن الممكن، لكن مع أطراف وقوى وطنية، أو طبيعية. حزب الله ليس كذلك. هو طرف مدجج بسلاح غير شرعي يأتي من خارج لبنان وبأموال ليست لبنانية. الأكثر من ذلك أن مرجعيته الأيديولوجية ليست لبنانية ولا عربية. وبالتالي فهو قابل ومستعد لأي عمل غير شرعي، بما في ذلك انتهاك تسوية تقوم عليها الحكومة. والتجارب مع الحزب منذ ما قبل 2005 وحتى الآن تصب في الاتجاه نفسه. وهذا طبيعي تماماً. فحسابات الحزب ومصالحه وارتهاناته ليست لبنانية، بل تقع خارج لبنان.
موقف نصر الله بعد الاستقالة طبيعي ومتوقع، خصوصاً أن استقالة الحريري رفعت غطاء كان يظن أنه ضمنه لخمس سنوات مقبلة. ما قد يبدو للبعض ليس طبيعياً هو موقف الرئيس عون الذي انشغل هو الآخر بعودة الرئيس المستقيل، ومحاولة توجيه تهم مبطنة للسعودية، من دون أن يبدي أي اهتمام بسبب الاستقالة وخطورته ودوره هو في هذا السبب. والحقيقة أن موقف عون طبيعي هو الآخر. فالذي فرضه رئيساً للدولة هو سلاح الحزب قبل تنازلات الحريري. خطأ الحريري أنه قدم بـ «التسوية» غطاء لهذا السلاح. لكن هناك فرقاً مهماً. عون قبِل أن يوفر برئاسته الغطاء المسيحي الذي يحتاجه الحزب، في حين أن الحريري أكد باستقالته أنه لا يرضى أن يظل رهينة لهذا الدور.
موقف الجنرال من الأزمة التي فجرتها الاستقالة يؤكد المؤكد. كان له موقف من شعار المقاومة الذي يرفعه الحزب. في حديث له عن مزارع شبعا مع صحيفة الأهرام المصرية في 21 نيسان (أبريل)، 2005 يقول إن أصل هذه المشكلة مع سورية وليس مع إسرائيل. ثم يضيف في شكل لافت أن القول: «إن مزارع شبعا لبنانية ويجب إبقاء السلاح لتحريرها ذريعة سقطت».
في حديث آخر إلى صحيفة «القدس العربي» قبل 11 سنة، وتحديداً في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، سئل عون عما الذي سيفعله لنزع سلاح حزب الله في حال أصبح رئيساً للدولة. أجاب بالنص: «سأحمّل الدولة مسؤولية الدفاع عن البلد وتأمين الهدوء على الحدود، ودمج الأسلحة في النظام الدفاعي للجيش». بعدما أصبح رئيساً قال: «إن لبنان في حاجة إلى الحزب وسلاحه لأن الجيش اللبناني لا يزال ضعيفاً». أي أن السلاح الذي لم يكن شرعياً بات في نظر الرئيس كذلك عام 2017. قال ذلك من الخارج، أثناء زيارته مصر. ويعرف الجنرال أكثر من غيره أن موقفه المستجد من سلاح الحزب لم يكن جزءاً من تفاهمه مع الحريري. هذا تحديداً ما يؤكده صهره، جبران باسيل الذي أصبح وزيراً للخارجية في حديثه إلى صحيفة الأخبار اللبنانية في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2016. يقول: «تفاهمنا طاول كل شيء، ولكنه بقي في إطاره العام من دون أن يأخذ أي طابع، لا مكتوباً ولا تفصيلياً بتنفيذيته». أي أن التفاهم مع الحريري شمل سلاح الحزب، إلا أنه كان شفهياً، وعاماً (ليس تفصيلياً)، وليس مكتوباً، أي ليس ملزماً. وهذه صيغة تضمر نية المراوغة لأنها تعطي كل طرف في التفاهم حرية التصرف، وحرية التبرير. الحاكم الأساسي في هذه الحال هو ميزان القوة بين أطراف التفاهم. وبما أن سلاح الحزب إلى جانب الجنرال، رأى أنه يملك خيار فرض واقع السلاح وفرض شرعيته على رئيس الحكومة، بعدما بدأ العهد الجديد بالإقلاع.
في المحصلة انهارت التسوية لأنها لم تكن كذلك. كانت مجرد تفاهمات شفهية وعامة، وليست ملزمة. وكانت انتهازية أيضاً. قبل بها كل طرف بناء على فهمه هو بمعزل عن الطرف الآخر، وبناء على حاجته السياسية هو، وليس بناء على فهم وطني مشترك ومكتوب وملزم لكل الأطراف. من الواضح طبعاً أن الحريري غامر بقبول تسوية مثل هذه وهو يعرف أولاً أنه الطرف الأضعف، وثانياً أن عون بات مرتهناً للحزب لأنه أوصله للرئاسة، ثالثاً أنه بالتجربة منذ 2005 لا يمكن الوثوق بالتزام الحزب، ورابعاً أن مرجعية الحزب في كل الأحوال ليست لبنانية، ومن ثم فإن قراره، على رغم جعجعات نصرالله، ليس بيده تماماً. والواضح أيضاً أن الجنرال ومعه الحزب تعاملوا مع قبول الحريري على أنه تنازل مجاني، وبالتالي لا يلزمهم بشيء. هذه هي المشكلة الكبيرة التي يحاول الجنرال ونصر الله الهروب منها إلى الأمام. الآن بات على الرئيس عون تحمل تبعات حلمه الرئاسي، وتسويق أن داعمه الرئيس في تحقيق حلمه هذا ميليشيا متهمة بالإرهاب، وتبعيتها ليست له ولا للدولة التي يقف على سدتها، وإنما تقع في مكان خارج حدود هذه الدولة.
* أكاديمي وكاتب سعودي