مذكرات بن لادن كشفت كثيراً من أسراره ورؤيته للعالم من حوله، وكيف كان يرى أن الثورات العربية أفضل بيئة لنشر أفكار التنظيم المتطرف وتصديرها، بل وتوطينها في مناطق جديدة مثل بلدان «الربيع العربي»، حيث غياب القيادة الواعية والمنظمة مكن التنظيم من إيجاد موضع قدم كبيرة له في ليبيا مثلاً، التي سقطت فيها الدولة وليس النظام فقط، وكانت تفتقر إلى العمل المدني والسياسي المنظم البديل لمشروع بن لادن وإخوان البنا وقطب؛ الجماعات الأكثر تنظيماً في أساليب العمل السري والتآمر، حيث كشفت وثائق أبوت آباد ماضي بن لادن مع «الإخوان» وخططه لاستخدام ليبيا مركز انطلاق للتنظيم، وكاد ينجح تنظيم القاعدة في جعل ليبيا عاصمة للتنظيم بعد سقوط نظام القذافي، بل وسقوط الدولة بأكملها وانهيار الجيش والشرطة فيها جراء ضربات حلف الناتو لمراكز القيادة والسيطرة وتدمير جميع معسكرات الجيش الليبي، ما تسبب في حالة فوضى ميليشيات مسلحة مكنت التنظيم من تشكيل كتائب له من أشهرها «بوسليم» و«السحاتي» و«أنصار الشريعة» و«17 فبراير» و«الفاروق» و«أبو عبيدة» و«سرايا الدفاع» وغيرها، والتي تشكلت من سجناء سابقين للتنظيم أفرج عن أغلبهم قبيل أحداث فبراير (شباط) 2011، فمكنت التنظيم من جمع الأسلحة من مخازن أسلحة الجيش الليبي التي تعرضت للنهب والاستيلاء عليها من هذه الميليشيات، بل وتحولت معسكرات أخرى إلى معسكرات تدريب، تولى النظام القطري الإشراف المالي والعسكري عليها، حتى فاق حجم الإنفاق عليها ملياري دولار، لتمكين وتوطين هذه الميليشيات لتحقيق رغبة بن لادن في اتخاذ ليبيا عاصمة للتنظيم قبيل مقتله، ورغم المحاولات المتكررة لتنظيم الجماعة الليبية المقاتلة؛ فرع تنظيم القاعدة الليبي، نفي تبعيته لتنظيم القاعدة الأم، فإن إيواء قيادات للتنظيم مثل مختار بلمختار، بل وتبادل الزيارات بينهم وبين الجماعة الليبية المقاتلة يؤكدان تشابك العلاقات بينهم وتقاطع المصالح بينهم، حتى بفرضية النفي غير الواقعي الذي تدحضه الحقائق والتواصل بينهم.
بن لادن الذي قال في مذكرات بخط ابنته: «الثورة الليبية فتحت الباب للمجاهدين»، كان قد سعى إلى الاستفادة القصوى من ليبيا وحالة الفوضى فيها كقاعدة لـ«القاعدة» تجعلها منطلقاً للإرهابيين نحو أوروبا لقربها من الشواطئ الأوروبية وسهولة تهريب الأسلحة وتسلل المقاتلين وغياب مظاهر الدولة وسيطرة ميليشيات أغلبها موالية للتنظيم في مناطق كثيرة في ليبيا، منها درنة وبنغازي ومصراتة وصبراتة والزاوية، حيث كانت معسكرات تحمل الولاء لتنظيم القاعدة، بالإضافة إلى الثروة النفطية الضخمة.
تمكن النظام القطري من استخدام الجماعات والتنظيمات الإسلاموية في ليبيا وتسخيرها لتمكين تنظيم القاعدة من الانتشار في ليبيا، وسهل له الأمر سيطرة تنظيم جماعة الإخوان على السلطة في ليبيا في البرلمان المنتخب في 2012 تحت اسم «المؤتمر الوطني العام»، والتي صرفت أكثر من مليار دولار مرتبات لميليشيات أغلبها تتبع التنظيم المتطرف، وتلقت أسلحة حديثة تم الإفراج عنها في عام 2013 من مجلس الأمن بوساطة قطرية وأميركية مشتركة، مكنت الإسلاميين من الحصول على مدرعات وأسلحة متوسطة كانت إدارة أوباما – كلينتون تسعى لمشروع توطين هذه الميليشيات عبر ضباط قطريين موجودين في ليبيا بشكل واضح.
إدارة أوباما كانت على علم مسبق بما تفعله قطر في عهد الحمدين لصالح توطين ميليشيات الإسلام السياسي في ليبيا التي هي مشروع راهن عليه بن لادن في قطر وليبيا، وهذا يؤكده التراخي الأميركي والغربي في التعاطي مع دعم النظام القطري للإرهاب، دون التقدم بشكل ملموس لملاحقة النظام القطري ومعاقبته على دعم الإرهاب وتمويله وتصديره.
نهاية مشروع بن لادن في الرهان على ليبيا، الذي قدمت له قطر الدعم الكبير في ظل تغاضي إدارة أوباما عنها، بل حتى عن إنقاذ سفيرها، الذي تعرض لهجوم تنظيم القاعدة دون أن تقدم له المساعدة العسكرية، رغم وجود قوة عسكرية أميركية كانت لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن المجمع الدبلوماسي، حيث قُتل السفير وأربعة آخرون، بينما لم يكن يحرس المركب الدبلوماسي في بنغازي سوى خمسة حراس اتضح أن اثنين منهم كانا عميلين مع المهاجمين، حيث قتل السفير في عشية ذكرى 11 سبتمبر (أيلول) وقبيل مقتل قيادي «القاعدة» أبو يحيى الليبي، الأخ الشقيق لأبرز نائب في المؤتمر الوطني انتخبته الجماعات الإسلامية المنتمي للجماعة الليبية المقاتلة.
مشروع بن لادن قد انهار تحت ضربات الجيش الليبي لمعسكراته وقُتل كثير من مقاتليه، وغياب قاعدة شعبية حاضنة له هو ما أفشل المشروع القطري، وتبدد حلم بن لادن باستغلال «ثورات الربيع العربي» ومحاولة التحكم في سرعتها والتخفيف منها للسيطرة عليها.
0 3 دقائق