لم أنوِ العودة إلى أزمة قطر لو لم أستمع إلى اللقاء الذي بثته محطة تلفزيون قطر الرسمية أخيراً مع رئيس الوزراء السابق ووزير الخارجية السابق أيضاً في دولة قطر حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، إذ يعتبر هذا الرجل ذو الكاريزما الواضحة، الأبرز في رسم سياسة قطر المثيرة للجدل، وهو بالطبع صاحب الكلمة الأخيرة في رسم سياسة قطر الإعلامية. خرج بعد أشهر من مقاطعة الدول الأربع (السعودية ومصر والإمارات والبحرين) قطر، وعطفاً على ما انتهى عليه ذلك اللقاء، أتوقع أنه نادم على هذا الظهور.
الأسئلة الأهم التي لم يطرحها مقدم اللقاء على حمد بن جاسم هي: لماذا ومنذ تأسيسها دأبت قناة «الجزيرة» على النيل من المملكة؟ وأخيراً ضمّت إليها البحرين ومصر والإمارات؟ لماذا تستميت القناة في استضافة أي معارض سعودي مهما كان هامشياً للتحريض على أمن المملكة واستقرارها؟ لماذا حرصت القناة على استضافة رموز «القاعدة» بما يشبه حصولها على حقوق البث الحصرية لخطب أسامة بن لادن والظواهري؟ لماذا تبادر الدوحة إلى استقبال بعض الحركيين (سروريين وإخونجية) في المملكة وتغدق عليهم الهدايا والمنح وفرص الاستثمار المضمونة العائد؟ ما الفكرة من إطلاق مسمى «أوشيقر» على طائرة أمير البلاد، وهذا اسم بلدة سعودية صغيرة في قلب نجد؟ ما سبب اختيار خطباء الجمعة في جامع محمد بن عبدالوهاب في الدوحة من السعوديين ذوي الاهتمامات والتوجهات الإخوانية أو السرورية؟ هل توجد قناة إخبارية مهنية عاقلة في هذا الوقت تستضيف سعد الفقيه أو محمد المسعري وغيرهما للتعليق على أي حدث في منطقتنا؟ ماذا فعلت مصر بقطر؟ ولِمَ كل هذا التركيز الغامض على النيل من حكومة مصر وشعبها؟
هذه الأسئلة وغيرها لم تطرح على رغم أنها تشكل «لبّ» الأزمة وسبب نفاد صبر المملكة ومصر تحديداً. التسجيلات التي حملت التآمر والنوايا العدوانية فسّرت لنا في ما بعد أسباب ذلك السلوك الذي بدأ قبل عقدين وتوقف لوهلة عام ٢٠١٤، ثم عاد عبر قنوات ومنصات جديدة قام بتأسيسها عزمي بشارة في أوروبا. لو أن التسجيلات المعروفة خرجت من دون وجود هذا الموقف الإعلامي التحريضي، لقبلنا ربما بتفسير حمد من باب المجاملة فقط. على المستوى الشخصي وعند سماعي إياها للمرة الأولى قبل أربع سنوات، أدركت لماذا تنتهج «الجزيرة» هذا الخط العدائي الفاضح ضد بلادي، وتنبأت بما سيحدث وقد حدث بالفعل (إلى متى يا قطر؟ ١١ أيار/ مايو) ٢٠١٤ في «الحياة»).
يقول حمد بن جاسم في اللقاء المذكور، وبعده الشيخ تميم في برنامج 60 Minutes الأميركي، وقبلهما وزير الخارجية، إن قطر التزمت «اتفاق ٢٠١٤»، الذي وقّعته في الرياض، فلِمَ كل هـــذا الغـــضب. نعم، تأدبت قناة «الجزيرة» قليلاً وتوقفت عن التلفيق بعد الاتفاق، لكن حكومة الدوحة سارعت إلى افتتاح منصات إعلامية جديدة في أوروبا تحفظ لقطر الاستمرار على النهج السابق. لم يفسر لنا حمد أي سبب، ولم يبادر بأي اعــــتذار عن نشر إحدى هذه المنصات وعشية ختام قمة الرياض، التي حــــضرها الرئـــس ترامب وعدد كبير من الدول الإسلامية، مقالةً للوزير الإيراني ظريف، يتهم فيها المــملكة بتدبير عملية ١١ أيلول (سبتمبر). من سمح بهذه المقالة وأبــــرزها في ذلك الموقع المملوك لقطر هو في حقيقة الأمر يهين الشيخ تميم نفسه قبل السعودية، إذ انه كان وقتها لا يزال موجوداً في الرياض.
الذي لم يدركه الإخوة في قطر ممن يعتقد ببراءة النظام القطري قبل هذه المقابلة، أن التسجيلات فضحت النوايا التي كانت تحلم بـ «تفتيت» المملكة. ساعدهم في ذلك بالطبع سوء قراءتهم وتقييمهم لـ «حلم» و«كرم» ملوك المملكة السابقين، وتغليبهم مصالح وحدة الخليج. صبر المملكة ومصر أوهمهم أننا غير قادرين على اتخاذ ولا عُشر ما اتخذ مع الدول الأربع من قرارات.
اليوم، تعيش حكومة الدوحة في مأزق هائل ومريع، كل مشاريعها وخططها واستثماراتها تعتمد في تحقيقها ونجاحها على توفّر بيئة السلام في المنطقة. «الخطوط القطرية»، الناقل الجوي المثير للإعجاب والفائز بجوائز عالمية، تعتبر أكبر الخاسرين، كونها أقدمت على تحديث أسطولها أخيراً بعدد كبير من الطائرات الحديثة الباهظة التكاليف، فضلاً عن الإنفاق في البنى التحتية من تدريب للعاملين ورفاهية للمسافرين. منع تحليق هذه الطائرات في أجواء الدول الأربع يرفع كلفة التشغيل، ولا يشجع على اختيار هذا الناقل، بسبب طول وقت الرحلات التي اضطرت للتحليق فوق أجواء أخرى بعيدة. تكاليف نقل المواد الغذائية والاستهلاكية إلى داخل قطر هي الأخرى ارتفعت، ووجدت الحكومة نفسها مضطرة لدعم الأسعار. السياحة تضررت كثيراً، بسبب غياب زوار المملكة تحديداً، لأنهم الأكثر تردداً وإنفاقاً.
لا أتذكر حالات مشابهة لما حدث ويحدث في قطر في أي دولة نامية في التاريخ المعاصر. في قطر شاهدنا المال الضخم السريع والطموح غير المنطقي أحياناً في نوع وحجم وتوقعات بعض المشاريع الاستثمارية، وكل ذلك مع إهمال جانب الأخطار. يحدث ذلك فقط عندما تقود التنمية العقول نفسها التي تقود السياسة. الأخطار الموضوعة في دراسات الجدوى الاقتصادية للمشاريع تشتمل على بند مهم، وهو المحافظة على العلاقات مع دول الجوار، تفادياً لأي تكاليف إضافية، لكن «الوهم» الذي تأسس لدى حكومة قطر، المتمثل بعدم وجود أي أخطار، على رغم السلوك العدائي الفاضح ضد دول المنطقة، لم يساعدها على قراءة هذا الخطر، وهذه بالطبع السقطة الكبرى لحمد بن جاسم. حتى الولايات المتحدة الأقوى اقتصاداً وجيشاً تتحاشى أن تضع نفسها قرب من أي مناطق حساسة تؤثر في حجم التجارة والأعمال.
الآن، قطر تتضرر بالفعل، ولا تستطيع الاستمرار على هذا النحو، وإن طال زمن المقاطعة فستضطر لسحب المزيد من مدخراتها وتسييل أصولها. إضافة إلى ذلك، هناك العديد من قضايا الفساد والرشوة في أوروبا والولايات المتحدة يتم التحقيق حولها، وقد يمتد ذلك إلى المحاكم الدولية.
يبدو أن حمد بن جاسم بدأ أخيراً يشعر بانقضاء شهر العسل، الذي تم تطريز أحداثه بالمال وشراء الذمم. لهذا، فظهوره في ذلك اللقاء وبعد أشهر من المقاطعة كان مختلفاً عن أي ظهور سابق. خرج منكسراً ضعيفاً ومتوسلاً في مواقف عدة. تأكيده صحة التسجيلات يعتبر فضيحة وعاراً، وتبريراته لها لا يصدقها طفل في مرحلة الروضة وهو يدرك ذلك. الواقع أنني لم أشاهد هذا الرجل بهذا الضعف وقلة الحيلة وانعدام الكاريزما من قبل، ولا أتصور عودة تلك الصفات القيادية إلى شخصيته في ما بعد.
مع كل ذلك، أمام قطر اليوم فرصة لوقف عجلة الإفلاس، وذلك من خلال قبول شروط الدول المقاطعة، والعودة إلى الواقع، وتحمل المسؤولية، وطرد كوابيس اليقظة، لكن هذا القرار يحتاج إلى قيادة جديدة، وقوة وشجاعة لا تتوافران حتماً لدى الحكومة الحالية.
* كاتب سعودي