مضى قرن من الزمان بالكمال والتمام على أمة العرب ، مليء بالهزائم والنكسات، ويترع بالمرارة الممزوجة بطعم بلفوري كريه، نتجرعه ولا نكاد نسيغه، حيث اقدم وزير المستعمرات لدولة تقيم اركانها على جزيرة أطلسية مغمورة بالضباب في اقاصي الغرب ويمتد نفوذها إلى أقاصي الشرق وبكل وقاحة وصلف ؛ أن يصدر وعداً بإقتطاع أرض عربية إسلامية مقدسة ويهديها إلى مجموعات يهودية متناثرة في دول العالم من أجل إقامة وطن قومي لهم على حساب شعب أصيل متجذر في أرضه منذ آلاف السنوات.
هذا الفعل الإستعماري المشين الذي يخالف كل أعراف الأرض والسماء يصبح أمراً واقعاً وقائماً على الارض، وتحاول كل الدول الإسعمارية في الغرب والشرق أن تصبغ عليه الشرعية، وآن توفر له كل سبل الحماية والرعاية ، وتمده بكل عوامل الإستمرار والبقاء، ثم يمتد الأمر إلى بقية دول العالم من باب سياسة الأمر الواقع، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبح الواقع يفرض نفسه على الدول العربية قطراً قطراً، وأصبح الجدار العربي ينهار رويداً رويداً، حتى بلغ الأمر بالفلسطينيين أنفسهم أن يتقبلوا الأمر الواقع وأن يتكيفوا معه ببطء متدرج.
تقبل الفلسطينين والعرب للامر الواقع الذي اصبح عاماً وشاملاً بعد مرور (100) عام، من الحروب والثورات والسجون والمعتقلات والدماء وقوافل الشهداء وحركات التحرر، سوف يؤول الأمر الى الاعتراف ثم يؤول الامر إلى مفاوضات طويلة و ممتدة لن تسمح بكيان سياسي مستقل على جزء من الارض المحتلة، بل سوف تكون المفارضات على شكل الحكم الذاتي للبقايا المستعصية على عوامل التهجير القسري والطوعي، وسوف نخوض معركة سلمية طويلة على شكل هذا الحكم الذاتي وسقفه وصلاحياته وشروطه وكيفية تبعيته ولمن يتبع، وحول الأعداد المسموح لها البقاء في مساجات ضيقة محاصرة لا تسمح بالتناسل الطبيعي فيما يقتضي البحث عن منافذ الخروج الدائمة والمستمرة بلا عودة من اجل افراغ الارض من اهلها وافساح المجال امام استقدام مهاجرين يهود جدد.
كانت الخطوات الفلسطينية والعربية السلمية التي تقترب من الاقرار االتام بالوضع القائم تجد نفسها في كل مرة أمام سراب بقيعة يحسبه الظمأن ماء، وإذا جاءه لم يجده شيئا..
ومازالت الخطوات تتوالى بالاتجاه نفسه، وما زال منظر السراب يتكرر ويكاد لمعان شمسه الوهمية يأخذ بالأبصار.. ويتحول الفلسطينيون والعرب إلى أشكال من النضالات البديلة، وخوض معارك أخرى بعيدة عن جوهر القضية والصراع، وقد نجحت الخطة فعلاً كما كانت تنجح في كل مرة وأتت ثمارها بعد مائة عام من مناطحة الصخرة، لتصبح المعارك فلسطينية – فلسطينية تارة ، وتارة عربية – عربية، ففي ككل قطر معركة وصراع، في العراق وفي سوريا، في مصر وفي اليمن، في ليبيا و في السودان، وفي الصومال وفي الخليج ايضا …
وسوف تبتعد ميادين الصراع عن لب القضية اميالا واميالا ، وتأخذ أشكالاً أخرى من النضال المبتدع ؛ بعضها فكري وبعضها ثقافي وبعضها قانوني، وعندما تقدم (إسرائيل) على قرار ضم القدس الكبرى وتقيم المستعمرات والجدار العازل، وإنشاء الطرق وإقامة الحواجز تمهيداً لقرار ضم الضفة باكملها، وتدمير الأنفاق وتشديد الحصار، سوف تسمع أصواتاً عديدة وجريئة بالتجنيس والبحث عن معارك كثيرة بنكهات بلفورية عديدة ومختلفة حول «الحقوق المنقوصة» والعادلة مقابل الحقوق الكاملة المهدورة على أقدام (جيش الدفاع الإسرائيلي).
ما كان لبلفور أن يقطع وعداً وينجح في تنفيذ وعده لولا حالة الضعف والبؤس التي أصابت الجسد العربي، وانتشار أمراض الطاعون والكوليرا في كل أطرافه، لكن المصيبة الأعظم أنه بعد مرور مائة عام على الوعد ما زال الضعف يزداد ويتعاظم ، ويزداد الحال السيء سوءاً، ولا مجال لازالة هذا العار الا بازالة عوامل الضعف التي أنتجت الوعد وانتجت هذه الحالة البائسة.
54 2 دقائق