كثيرون في العالم، ونحن، العرب، منهم، ساخطون على أمريكا ولكنهم لا يستطيعون الاستغناء عنها. يكتوون بنارها وفي الوقت ذاته ينهلون من خيراتها. ينتقدون هيمنتها وعدلها المفقود وانحيازاتها الظالمة، ومع ذلك يطلبون ودّها مصحوباً بأسلحتها وتكنولوجيتها ومعونتها الاقتصادية. حال العالم مع أمريكا، مثل حال الشرق مع شعر نزار قباني، عندما وصفه بقوله «يعانق الشرقُ أشعاري ويلعنها.. فألف شكر لمن أطرى ومن لَعَنا». غير أن أمريكا لا تشكر من يلعنها أو يعاديها وهم كثر.
عبر تاريخها القصير في عمر الحضارة الإنسانية، ارتكبت الولايات المتحدة الكثير من الآثام والخطايا بحق الشعوب، ملايين قتلوا وملايين تشردوا، وأوطان كاملة تمزقت وضاعت على أيديها وبسببها، ولكن أمريكا ليست ولم تكن أبداً شراً خالصاً، فهي التي أهدت للإنسانية المئات بل الآلاف من الاختراعات العلمية التي غيرت وجه العالم والتاريخ. وهي المصدّر الأكبر للابتكارات والأبحاث وإنتاج الأدوية التي أنقذت حياة الملايين. وإذا كانت قوتها العسكرية وبالاً على شعوب، فقد كانت خير معين لشعوب أخرى.
العالم بلا أمريكا لن يكون عالماً بلا برجر أو موسيقى البوب أو الجينز فحسب، ولكنه كان سيصبح أيضاً عالماً بلا كمبيوتر أو إنترنت أو هوليوود أو قائمة طويلة من الإنجازات العلمية والاختراعات التي يستحيل العيش بدونها الآن.
أصدقاء أمريكا يقولون إن العالم بدونها سيغدو أقل حرية وبلا تقدم. وسيصبح عالماً يتحكم فيه المتشددون وتضرب فيه الفوضى أطنابها. أمريكا هي شرطي العالم الذي يحفظ السلام للجميع حتى لو ظلم البعض. وهي أيضاً بنك العالم باعتبارها أكبر المانحين للفقراء والمحتاجين. على النقيض ينعتها أعداؤها بإمبراطورية الشر الأكثر ظلماً وقسوة في التاريخ. وأنها تحولت إلى قوة استعمارية من نوع جديد تهيمن على الدول وتتحكم فيها دون احتلال مباشر.
في كل الأحوال وبعيداً عن تلك التجاذبات السياسية المعروفة، فإن فكرة «عالم بلا أمريكا» ليست خيالية، وقد ناقشها العشرات من الكتاب والفنانين الأمريكيين في أعمال مكتوبة ومصورة، وأطلقوا لخيالهم العنان لتصور مثل هذا العالم. ووجهة النظر الجادة تقوم على أساس أن الافتراض بوجود عالم بلا أمريكا ليس معناه اختفاء هذا الدولة العملاقة. ولكن المقصود تراجع دورها القيادي ونفوذها السياسي، أي عالم بلا قيادة أمريكية.
مثل هذا الاحتمال يبدو ممكناً من وجهة نظر كثيرين، مثل المحلل السياسي المعروف ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، الذي يرى أن الأسس المحلية المتينة التي قامت عليها القوة الأمريكية تتداعى بالفعل، وهو ما يعني أن استمرار هذا القوة في المستقبل سيكون مستبعداً. ومن وجهة نظره، فإن أكبر تهديد تواجهه بلاده حالياً وفي المستقبل المنظور ليس صعود الصين أو روسيا، أو امتلاك إيران وكوريا الشمالية أسلحة نووية، وليس الإرهاب، أو التغييرات المناخية. ورغم أن هذه كلها تهديدات حقيقية وقائمة، فإن التحديات الأخطر التي تهدد مستقبل أمريكا تتمثل في التضخم السرطاني لديونها، وتراجع مستوى التعليم المدرسي، وتدهور كفاءة البنية التحتية، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وتقادم نظام الهجرة. باختصار كل ما كان له دور مهم في صناعة الحلم الأمريكي.
ويتوقع الكاتب الشهير فريد زكريا نفس النتيجة السلبية. وفي كتابه «العالم ما بعد أمريكا»، يرصد مؤشرات تراجع الدور الأمريكي من خلال عدم القدرة على ممارسة النفوذ بصورة فعالة. والانتشار الجغرافي الواسع لقواتها وهو ما يستنزفها اقتصادياً، في وقت تعاني فيه تدني معدلات النمو الاقتصادي لأسوأ مستوى منذ عقود، مع تراجع الدولار.
والتراجع الأمريكي على مستوى قيادة العالم هو حقيقة حتمية من منظور تاريخي في رأي زكريا. لماذا وكيف سيحدث هذا التحول الخطير؟ ومن سيشغل الفراغ الهائل الذي ستتركه الولايات المتحدة، إذا قدر لها أن تترك قيادة العالم لغيرها؟.