ذات مرة تحدث ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر موضحاً الفارق بين الثورات التاريخية والثورات العقلانية، فاعتبر الأولى نوعاً من الوبال على الشعوب التي تصاب بها، إذ لا تجر عليهم سوى الدمار والمرار، فيما النوع الثاني يدفع في طريق البناء والنماء، والفارق هنا هو القيادة ونوعية الرجال العاملين على رفع مشاعل التنوير أمام الأمم.
في هذا السياق، يعن لنا أن نتساءل: هل كان حديث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في افتتاح مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار نوعاً من أنواع الثورات العقلانية؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك بالفعل، لا سيما أن رؤيته تقوم على عنصر أساسي، هو الإنسان الذي يراه الركيزة الأولى والأهم في بناء المستقبل.
خطاب الأمير محمد بن سلمان يذكرنا بأن النهضة الحقيقية هي ثورة، وأن الأمم تتعاظم بقدر مساحة الأحلام، وعزيمة الرجال.
ولي العهد السعودي يدفع بلاده إلى نفض التراب الذي التصق بأرجل مواطنيه؛ غبار التخلف والرجعية الذي حملته صحوة متهافتة عام 1979، لا هم لها سوى تصدير الموت والخراب، التشدد والراديكالية، إلى ما حولها من دول. وعليه، فالأمير محمد لديه حلم عريض بالعودة إلى الإسلام السمح المعتدل المتعاطي مع الآخر المختلف عقيدة وثقافة، ضمن ثقافة قرآنية أصيلة: «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».
لا يدفع الأمير محمد شعبه في طريق ثورة اقتصادية فحسب، وإن كان ذلك له أهمية فائقة الجدوى، وعبر شراكة عربية – عربية تؤمن مستقبلاً نوعاً من الوحدة طال الاشتياق إليها، بل ما هو أرفع وأنفع؛ إنه يرسم لشعبه خطوط الانحياز للمستقبل، والتماس روح العصر، وتغليب العقلانية على الخرافة، وتحديد الموقع والموضع من الآخر.
حين تحدث ولي العهد السعودي عن مشروع «نيوم»، لم يكن يخبر العالم عن قصة اقتصادية تقليدية هدفها الربح السريع، بل كان يشير إلى دائرة من دوائر اقتصاد الابتكار، الذي لا يتصدى له سوى الراسخين في العلم؛ دائرة أركانها الأساسية هم البشر في تحديهم وتصديهم للطبيعة الصماء، وهو أمر ليس بغريب أو مستغرب على رجل ولد وعاش في أجواء حضارة الصحراء التي علمت الإنسان الفراسة والذكاء، وزودته بالعزيمة الجبارة التي تجعله يصل إلى ما يريد.
مشروع «نيوم» لا يقدر عليه سوى الحالمين. وفي الحقيقة، الواقعيون الحقيقيون هم الذين يحلمون، وذكاء الأمير محمد بن سلمان يقوده إلى فهم عميق، مفاده أنه إذا حلمنا وحدنا، تبقى الأحلام أحلاماً، وإن كنا اثنين نحلم بالشيء ذاته، فإن واقعاً جديداً سيولد.
خطاب الأمير محمد الأخير ثورة نهضوية تشي بأن النهضة ليست حفلة تنكرية يمشي فيها الغراب مشية الطاووس فيصير مثله، بل مجتمع يضع أساساته الوعي، ويعلي قوائمه الجهد والإصرار والجلد، ويدفع تطوره الانحياز غير المشروط للمستقبل؛ معادلة تجاهلناها كثيراً في عالمنا العربي، لا سيما في العقود الثلاثة الأخيرة، التي ضرب فيها الإرهاب أطنابه في مجتمعاتنا العربية، عوضاً عن السعي الحثيث والجاد للحاق بالمستقبل؛ ما راكم النكبات، وجعل التبشير بالنهضة أضغاث أحلام وبكاء على الأطلال، وحدا بالتنوير إلى دوائر الظلام.
نهضة الأمير محمد وثورته الحقيقية تدرك أن الإصلاح الشامل يقتضي العمل على حزمة واحدة من الإدراكات لكل ما أصابه العطب وأتلفه الهوى العاطفي والموروث البائد البعيد عن متن الحضارة العربية ونجاعاتها، وعن صحيح الإسلام وسماحته. ولهذا نراه حريصاً كل الحرص على رسم معالم وملامح برنامج يضع فيه الثقافة وتحسين أحوالها بجانب الاقتصاد وتحفيز آلياته، والقضايا الدينية وإعادة تصويب مسار ما اختل منها عبر مسارات ومساقات الحياة في العقود المنصرمة. وفي جميعها، يسعى إلى ترميم وتجديد معظم جوانب الحياة في المملكة دفعة واحدة غير مجزأة.
يقبل الأمير محمد بن سلمان في ثورته ولا يدبر، وفي مقدمة أوراق اعتماده للتاريخ والمستقبل إرادة فولاذية لا تلين تجاه اجتثاث التطرف ومحاربة الغلو، وقد رأى الجميع أي منقلب انقلب إليه حال ومآل المتطرفين والإرهابيين، وكيف قادوا الشرق الأوسط إلى الدرك الأسفل، إلا ما رحم ربك.
ثورة ولي العهد، وكما يتبدى للجميع، ثورة تنشأ في العقول أول الأمر وآخره، وتدرك تمام الإدراك أننا قلما نصل إلى شيء جديد من دون أن نضل قليلاً، فالطفل لا يتعلم المشي من دون أن يكون قد سقط على وجهه مرات كثيرة، أما الطفل الخائف فسيبقى جالساً دوماً.
رؤية الأمير محمد بن سلمان الحقيقية تتمثل في التمرد على الأعماق الطائفية والمذهبية التي تحصرنا في سياق ضيق الآيديولوجية، وتقطع علينا الطريق للمضي قدماً في رحابة الإبستمولوجيا، أي المعرفة بكل صنوفها وألوانها، وما يقوم به ولي العهد السعودي في واقع الحال هو عملية نقد للموروث الراديكالي في عالمنا العربي، تماماً كما جرى في أوروبا على يد فلاسفة التنوير.
أصحاب الثورات العقلانية هم قادة بدرجة مفكرين، يضعون النقاط على الحروف ولا يساومون ولا يهادنون الباطل، حتى ولو كان يخدع تسعين في المائة من الشعب… والعبارة للرائع أبداً ودوماً جورج طرابيشي.