كانت مهمة القوات الأميركية والفرنسية التي كانت في لبنان في مطلع ثمانينات القرن الماضي حماية المكاسب التي حققها الغزو الإسرائيلي، والبناء عليها لمحاصرة سورية وإجبارها على توقيع اتفاق سلام مع الدولة العبرية، على غرار اتفاقات كامب ديفيد التي أخرجت مصر من الصراع، وأصبحت القاهرة حليفاً لواشنطن.
وترتب على إقدام حبيب الشرتوني على اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل الذي انتخب في تلك الفترة، وفيما كانت إسرائيل تحتل معظم الأراضي اللبنانية، نشوء مقاومة أجبرت الاحتلال الإسرائيلي على الخروج من بيروت والجبل إلى الشريط الحدودي، وترك الأطراف اللبنانية التي تحالفت معه آنذاك تخوض معاركه بالنيابة، واحتفظ بمراكز لاستخباراته للإشراف على المجازر التي ارتكبها هؤلاء، والتخطيط لمستقبل العلاقات مع لبنان، بعدما انتخب أمين الجميل، شقيق بشير، رئيساً.
حاول أمين، الذي يحتفظ بعلاقات عربية قوية، أن يخرج من المأزق، فشكل فريقاً أجرى مفاوضات مع الإسرائيليين وتوصل الطرفان إلى «اتفاق 17 أيار» الذي أبرمه البرلمان اللبناني، لكن المقاومة اشتدت فكانت «حرب الجبل» التي قادها سمير جعجع وراح ضحيتها الآلاف وهُجر المسيحيون من قراهم فامتنع الجميل عن توقيع الاتفاق.
بعد أكثر من ثلاثة عقود على اغتيال بشير الجميل فتح القضاء اللبناني ملف حبيب الشرتوني وقضى بإعدامه مع «مخطط العملية» نبيل العلم، وكلاهما ينتميان إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ويعتبران من رموز مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، من دون أن يأخذ في الاعتبار الخلفية التي دفعت الشرتوني إلى اغتيال بشير الجميل، وتجاهل كل الأدلة التي تدين الرئيس المنتخب.
بعيداً من الدخول في متاهة القوانين والدستور الذي يعتبر الاتصال بالعدو خيانة، أعادت هذه المحاكمة اللبنانيين إلى أجواء الحرب الأهلية وإلى الانقسام بين تحالفين، وسط حروب على سورية وفيها، مستمرة منذ ست سنوات، وعدم وجود أي مؤشر إلى اتفاق بين المعسكرين. بل العكس صحيح، فالرئيس دونالد ترامب أحيا، قبل أيام، الذكرى الرابعة والثلاثين للهجوم الانتحاري على قاعدة المارينز في بيروت، ويواصل الضغط على حلفائه الأوروبيين لإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، من دون أن يستبعد العمل العسكري. وكان نائبه مايك بنس أكثر وضوحاً عندما قال إن «تفجير (قاعدة) المارينز كان الشّرارة الأولى لانطلاق الحرب على الإرهاب. سنَنقل المَعركة إلى أرض الإرهابيين بشُروطنا»، مُضيفاً أن «حزب الله جماعة إرهابيّة تُعتبر وكيلاً لإيران».
علمتنا تجربة الحروب اللبنانية والسورية، في ما بعد، أن الولايات المتحدة والدول الكبرى لا تخوضها مباشرة، فلديها وكلاء في لبنان يؤدون المهمة وهم جاهزون، لا ينقصهم سوى المال يتوزعونه في ما بينهم، وبعض التسليح والتوجيه واختيار الأهداف.
الانقسام اللبناني عميق، وما محاكمة حبيب الشرتوني سوى مؤشر إلى تعميقه أكثر، فالاحتفالات التي أعقبت الحكم واعتبار الجميل «قديساً» والاحتجاجات المقابلة على الحكم تنذر بأن الحرب الأميركية على الإرهاب لن تنتهي مع هزيمة «داعش». وما بعد نهاية التنظيم عسكرياً سيكون أصعب. وها هي إسرائيل تستعد للمرحلة المقبلة.