انتقلت معركة الإسلام مع خصومه من كونها معركة مع من هو خارجه، إلى معركة «داخل الإسلام» وهذا تطور لافت لم يكن محسوسا قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن، حينما كان الإسلام مجرد طقوس عبادية، ولم يكن جزءا من المفاعيل السياسية التي تسهم في صناعة الحدث في العالم، حتى إذا أصبح «الإسلاميون» تحديدا رقما «صعبا» في أي معادلة تجري على سطح الأرض، خاصة في بلادنا، بدأت لعبة تقسيم الإسلام وتنويعه، فأصبح لدينا إسلام سياسي، وإسلام متطرف وإسلام محافظ، وإسلام بنكهة الفراولة، وآخر على ليمون، أو إسلام خال من السكر «دايت» وإسلام حديث أو محدث، أو مجدد، وإسلام «على حاله» وقد راقت هذه اللعبة لأعداء أمتنا، فأمعنوا فيها، وأشركوا معهم حلفاءهم، وهؤلاء الحلفاء على قسمين، بعضهم يعرف أنه حليف للغرب وشريك له، وبعض يعمل في خدمة الغرب وهو يعتقد أنه يحسن عملا، فهو عميل بالمجان، وبلا مقابل، وهذا أسوأ أنواع العمالة!
وهكذا، انتقلت المعركة برمتها إلى «داخل الإسلام» ومما فاقمها أكثر دخول عنصر فاعل في تأجيج الاحتراب الإسلامي الداخلي، وهذا العنصر اخطر من كل ما سبق، وهو ثنائية السنة والشيعة، حتى أنها نافست ثنائية الإسلام الراديكالي والإسلام المعتدل، وفي ظل هذا التقسيم المصنوع جيدا في مختبرات صناعة المصطلحات و»الثينك تانجس»، راينا شخصا مثل ترامب يعلن من قلب الجزيرة العربية، مهد الرسالة، عزمه على «استئصال» الإسلام «الراديكالي»، كأن هذا الـ «إسلام» مجرد زائدة دودية قابلة للإزالة والاستئصال، وسبقه وتلاه آخرون، الكثير منهم من أبناء جلدتنا، هددوا وتوعدوا بمحاربة الإسلام المتطرف، وبشروا بإسلام مسالم «متعايش» مع كل الأديان والشعوب، (دخلت هنا إسرائيل في المعادلة، وليس اليهودية كدين!) تمهيدا لتسسيل وتمييع الإسلام من حيث هو دين، ونظام، هو في كنهه، فقط إسلام، وأي استهداف له ولو كان تحت أي تصنيف ورد أعلاه، هو استهداف مباشر للإسلام نفسه، فهو واحد لا يقبل التقسيم والتجزيء والتنويع والتصنيف و»التنْكيه»، فاسمه ومحتواه ونكهته وكنهه هو هو، وإن اختلفت الأفهام والاجتهادات والرؤى والمذاهب «داخله»!
الإسلام مقبل اليوم على معركة طاحنة، لن تكون سهلة، حيث يرى البرفسور وليد عبد الحي، الخبير في الدراسات المستقبلية والعلاقات الدولية، أن الهجوم التدريجي والمتسارع والشامل على الثقافة الدينية سيتركز من ناحيتين: أ- التاريخ الديني: وسيكون التركيز على نقد الرواية التاريخية للوقائع الدينية. ب- البعد الميتافيزيقي للدين (الماورائيات الدينية( وستتسلح هذه الحملة وبشكل منظم ومدعوم من الداخل والخارج بعدد من الآليات الفاعلة : أ- توسيع دائرة التأويل لمعاني النصوص الدينية باتجاه هجر التأويل السائد لصالح تأويل جديد يعمل بجد ليخلخل – على المدى البعيد -الأسس التي قامت عليها منظومة الثقافة الدينية السائدة . ب- توظيف النظريات والاكتشافات العلمية الجديدة والمتجددة لمساندة تيار التأويل الجديد، مما يعني تزايد اقحام علماء ونظريات العلوم الطبيعية في التأويل والتفسير، مقابل تقليص دور «رجال الدين» أو علماء العلوم الاجتماعية في هذه الساحة. ج- وضع «المعجزات الدينية» موضع التأويل بشكل رئيسي لتبدو بأنها أقرب للمجاز منها للواقعة المادية في المرحلة الأولى تمهيداً -أو على أمل- نفيها لاحقاً. ويتنبأ الدكتور عبد الحي بأن تشهد المرحلة القادمة فيضاً من الأعمال الأدبية والأفلام والمسلسلات الفنية والمسرحيات التي تنطوي على اعتبار مرحلة «الثقافة الدينية» مرحلة «تاريخية» تشكل جزءاً من مراحل تطور «الوعي الإنساني» وليس خاتمته.
وهو يعتقد ان هذه المنهجية ستتسلل لمناهج التعليم تدريجياً وبخفر سياسي، مسنودة من مواقع إلكترونية وهيئات مجتمع مدني ستجرّ المجتمعات لهذه المناقشات لحساب تغييب موضوعات أخرى. وهو يعتقد ان حاملي الثقافة الدينية سيجدون أنفسهم دون مدد من العدد والعدة، وهو ما سيضيق الخناق عليهم ليتواروا في عزلة «صوفية» لعل الله يجعل لهم مخرجاً..
الحرب بدأت، ويعلم الله كم سنة تستمر، وإن كان الدكتور عبد الحي يتنبأ بأنها ستستمر طيلة العشرين سنة القادمة!